فى ١٩٩٦ عندما خرج من "روزاليوسف" بعد مضايقات تعرض لها، وأصدر "الدستور" الأولى، لم يفعل أكثر من نقل تجربة "روزا" التى بدأها عادل حمودة فى ١٩٩٢.
كان عادل قد جدد شباب "روزاليوسف"، بث فيها كثيرًا من روحه، وقدرته على نسج الأفكار، والدفع بدماء شابة فى شرايين المجلة المتيبسة، وضع فيها كل تجربته وخبرته، حتى أصبحت المجلة السياسية الأولى فى مصر متجاوزًا بها "المصور" و"آخر ساعة".
إبراهيم عيسى كان واحدًا من النجوم التى سطعت فى سماء "روزاليوسف"، وكان لعادل كعادته فضل إتاحة الفرصة فقط، فهو لا يمنح أحدًا ممن يعملون معه شيئًا، لكنه يترك الساحة أمامهم، وكلما أخذ أحدهم مساحة تركها له.
كل ما فعله إبراهيم أنه نقل خبرة وتجربة عادل حمودة فى صناعة الصحف إلى جيل من الشباب، كان قد فقد الثقة فى الصحف الحكومية بتعاليها والصحف الحزبية بجمودها وتجمدها، ويقتصر فضله فيما جرى على يديه أنه جعل تجربة «روزا» التى بدأت الدخول فى مرحلة الثبات المهنى، فى متناول الشباب بلغة رشيقة تخلط ما بين الفصحى والعامية، وأفكار مشاغبة قادرة على إثارة الإعجاب، ولم يخجل من تصنيفه بأنه صحفى إثارة، بل أكد على المعنى بمقال كتبه فى العدد السنوى الأول كان عنوانه "إحنا بتوع الإثارة".
فى تجربة "الدستور" الثانية التى صدرت فى عام ٢٠٠٥، لم يأت عيسى بجديد، كانت أمامه تجربة "العربى الناصرى" التى قادها باقتدار عبدالله السناوى، كانت "العربى" هى الجريدة الوحيدة التى رفعت السقف فى مواجهة مبارك وأسرته، وإذا راجعت أعدادها تحديدًا منذ عام ٢٠٠٣، تجد أنها وجهت مدفعيتها الثقيلة إلى رأس النظام مباشرة، فقد استكتب فيها عبدالله السناوى كل المعارضين، وتحمل ما لا يتحمله أحد من ضغط النظام عليه، بسبب بعض حملته الشرسة على التوريث، ومناقشة أدوار جمال وسوزان مبارك فى الحياة السياسية المصرية.
دخل إبراهيم عيسى إلى تجربته الثانية فى الدستور بعد ما يقرب من ٧ سنوات من الحجب والحصار، ليعيد تقريبًا كل ما نشره السناوى فى "العربى" من هجوم على نظام مبارك، ولكن بلغة أرشق ومعالجات أكثر اقترابًا من الشارع السياسى الذى كان مشتعلًا برغبته فى التغيير، أخذ ما أنجزه السناوى وأعاد تقديمه مرة أخرى للشباب الغاضب، الذى أخذ مما يقوله إبراهيم ويكتبه قبلة يولون وجوههم شطرها.
لقد حاصرت تجربة "العربى الناصرى" مبارك من كل اتجاه، وكانت تراهن على أنها التجربة الأكثرًا تأثيرًا فى مصر، فقد عانت كثيرًا من ضعف التمويل والإمكانيات، لكننى أعتقد أنها لعبت دورًا مؤثرًا جدًا فى تمهيد الأرض لثورة ٢٥ يناير.
ورغم أن السياق هنا ليس مناسبًا لذكر ذلك،
إلا أننى ومن واجب عبدالله السناوى علىّ أن أثبت هنا شهادة الأستاذ هيكل فى حقه،
ففى لقاء معه فى مكتبه بعمارة الجيزة، سألته عن رأيه فى تجارب من يحيطون به من
الصحفيين، قال لى عن السناوى، إنه نجح فى تجربة "العربى" بأكثر مما
يتخيل أو يتوقع، مضيفًا أن هذه التجربة هى التى أسست للمعارضة القادرة على هزيمة
نظام وتعريته تمامًا، دون أن تتجاوز فى اللفظ، أو تعتمد على أساليب الإثارة
المعروفة.
تجارب إبراهيم عيسى أقرب إلى التجارب
الطفيلية إذن، فقد نجح لأنه أضاف إلى تجارب ناجحة سبقته، وعندما أراد أن يؤسس
تجربة خاصة به لم يسبقه أحد إليها، لم يحقق نفس النجاح، والشاهد على ذلك تجربته فى
جريدة "التحرير"، ثم تجربته الأحدث فى جريدة "المقال".
ما علاقة كل هذا بحديث مقصود عن علاقة
الصحفى بالرئيس؟
أعتقد أن هناك علاقة وثيقة تمامًا، لا بد
أن ألفت الانتباه أولًا إلى علاقة إبراهيم بقارئه، هو من مدرسة نعرفها فى الصحافة
المصرية، لا تهتم كثيرًا بالقراء، حتى لو زعم أصحابها أنهم لا يعملون إلا من أجله،
فهم فى أحاديثهم العلنية سيدهم وتاج رأسهم، لكن فى أحاديثهم الخاصة لا يمثل شيئًا
على الإطلاق، فهى مدرسة يعمل أصحابها من أجل متعتهم الخاصة ومكاسبهم الذاتية، لا
يفرحهم مدح القارئ إذا مدح، ولا يغضبهم قدحه إذا قدح.
غازل إبراهيم عيسى القراء كثيرًا، لكن يبدو
أنه دخل بتجربته فى جريدة "المقال" التى صدرت بعد شهور قليلة من وصول
الرئيس السيسى إلى كرسى الرئاسة، بمنهج مختلف تمامًا، فعندما تقرأ أعداد جريدة "المقال"
سوف تشعر ببساطة أن إبراهيم يصدرها من أجل قارئ واحد فقط هو الرئيس عبدالفتاح
السيسى وليس غيره.
تحدث السيسى مبكرًا جدًا حتى قبل أن يصبح
رئيسًا عن ضرورة تجديد الخطاب الدينى، فسخر إبراهيم مقالات جريدته للانقضاض على
الخطاب الدينى، لكنه تجاوز ما يقصده الرئيس، فعدل موجته مرة أخرى، وأصبح أكثر
هدوءًا بعد أن قدم معالجات إعلامية عبر جريدته وبرامجه تهد معبد الخطاب الدينى على
رأس من يدافعون عنه.
فى المقابلة الأولى بين الرئيس
والإعلاميين، جلس مجموعة من الصحفيين فى صالون ملحق بقاعة الاجتماعات، وقتها كان
إبراهيم يثير مسألة عذاب القبر، ودخل فى جدل ضخم جدًا مع من يؤيدون مسألة وجود
عذاب القبر، اختلف بعض الصحفيين معه، قالوا له إن إثارة مثل هذه القضايا فى هذا
التوقيت غير مناسب على الإطلاق، خاصة أنها قضايا ليست جوهرية، فوجود عذاب قبر من
عدمه لن يفيد مصر الآن فى مرحلة تحولها السياسى والديمقراطى، خصوصا أن من قامت
عليهم ثورة يونيو يروجون أن من قاموا بالثورة يعادون الدين، ويخططون لهدم الإسلام
من أساسه.
دافع إبراهيم عيسى عن وجهة نظره باستماتة
فى مواجهة من اعترضوا على ما يقدمه، أكد أن الوقت مناسب جدًا، ولا بد من اقتحام
أوكار كهنة الخطاب الدينى الآن وليس غدًا.
بعد دقائق دخل الإعلاميون على الرئيس، تحدث
معهم فى قضايا كثيرة، ومن بين ما قاله موجهًا حديثه لإبراهيم عيسى بأن الوقت ليس
مناسبًا لمناقشة قضايا بعينها، لأن العقل المصرى ليس مستعدًا للخوض فيها، توقع
الإعلاميون رد فعل من إبراهيم، أو على الأقل أى رد من أى نوع على كلام الرئيس، على
الأقل أن يتحدث عن وجهة نظره، التى دافع عنها منذ دقائق بحماس منقطع النظير، لكنه صمت
واكتفى بهز رأسه، معلنًا موافقته على ما يقوله الرئيس، وبعدها لم يعد مرة أخرى إلى
حديثه عن عذاب القبر ولا حتى نعيمه.
يحرص إبراهيم عيسى على أن يوجه حديثه
للرئيس وحده، ولو قمت بدراسة مبسطة لهذه المقالات فلن تجد واحدًا منها يخلو من اسم
الرئيس، وكأنه يقول له إنه موجود، أو إنه يستطيع أن يكون معبرًا عنه، أو متحدثًا
باسمه.
يغضب إبراهيم عيسى عندما لا يجد رد فعل على
ما يكتبه لدى قارئه الأول والوحيد الذى حدده بنفسه، رغم أن الرئيس، وكما أعلم يطلع
على ما تنشره الصحف بنفسه ويوليه أهمية كبرى.
مرة واحدة اتصل عبدالفتاح السيسى بإبراهيم
عيسى، وقتها كان قد شن حملة هجوم عارمة على الحكومة فى برنامجه "٢٥/٣٠"
الذى كان يقدمه على فضائية "أون تى في" قبل أن ينتقل مرة أخرى إلى قناة "القاهرة
والناس"، وفى الحلقة التالية لحلقة الهجوم أعلن لجمهوره أن الرئيس السيسى اتصل
به، وناقشه فى الهجوم الذى وجهه للحكومة.
اتصال السيسى بإبراهيم عيسى لا يمكن أن
نعتبره ميزة خاصة به على الإطلاق، لا يعنى هذا أنه مقرب منه، ولا يعنى أن الرئيس
حرص على توضيح وجهة نظره له، فقد فعلها قبل ذلك مع كاتب مستقل أعتقد أنه لا يشغله
إطلاقًا أن يتواصل مع الرئاسة، وهو جمال الجمل.
كان الجمل يكتب وقتها فى جريدة "التحرير"
التى يرأس تحريرها إبراهيم عيسى، واحتفت الجريدة بالمكالمة التى استمرت لما يقرب
من عشرين دقيقة، والمعنى أن الرئيس يتواصل مع من يلفت نظره برأى أو فكرة، بصرف
النظر عن موقعية هذا الكاتب أو موقفه السياسى أو رأيه فيه، ولا يعنى الاتصال
التليفونى دليل قرب أو تفضيل.
فى عدة حلقات متتالية من برنامجه "٢٥/٣٠"
شن إبراهيم عيسى هجومًا شديدًا على سياسات وأداء الرئيس السيسى، للدرجة التى دفعت
البعض إلى الاعتقاد بأن الكاتب الذى حاول تصوير نفسه مقربًا من الرئيس انقلب عليه.
فى هذه الفترة احتفت مواقع جماعة الإخوان
حلفاء إبراهيم السابقين، بكل ما يقوله عيسى، ولو جربت وقمت ببحث بسيط على "اليوتيوب"
ستجد عناوين نارية تعلو مقاطع فيديو يتحدث فيها إبراهيم من بينها على سبيل المثال
لا الحصر:
"السيسى متردد فى فتح
ملف الأزهر الخربان".
"السيسى يعود بنا إلى
عصر الظلام والاستبداد".
"خطاب السيسى مليان
أخطاء لغوية وماكنش ينفع يقوله من غير مذاكرة".
"قفل السيسى ميدان
التحرير دليل على ضعفه وأن الدولة مهزوزة من الإخوان".
"السيسى افتعل أزمة
ارتفاع الأسعار علشان يحلها والشعب يشكره".
بعد حملة الهجوم الطاغية، اعتقد من يشاهدون إبراهيم عيسى ويتحمسون لما يطرحه من أفكار أن هناك أزمة ضخمة فى علاقته بالرئيس، لكن ما حدث فى مايو ٢٠١٥ أربك الجميع.
الكاتب والصحفى والإعلامى والمعارض الكبير والشرس يجلس إلى مائدة الرئيس هو ويوسف الحسينى على هامش افتتاح الرئيس عددا من المشروعات، وكان اللافت للانتباه أن إبراهيم يجلس على مائدة إفطار مع السيسى، بما يعنى أن الود موجود.
خرج عبدالفتاح السيسى من هذه الصورة منتصرًا تمامًا، بدا للجميع أن الرئيس لا يغضب من النقد، والدليل أن يجلس مع الإعلامى الذى يهاجمه بأريحية شديدة، يتحدث معه بود شديد، والأكثر من هذا أنه يتناول معه إفطاره، وهذا يعنى عند المصريين الكثير، فالعيش والملح المشترك دليل على أن النفوس صافية، لا يوجد ما يعكر بين أصحابها.
إبراهيم عيسى وحده خرج من الصورة مهزوما، لا تلتفت كثيرًا إلى يوسف الحسينى، لأنه فى النهاية ليس إلا جملة اعتراضية فى الحياة السياسية والإعلامية المصرية.
قبل هذا اللقاء كان إبراهيم عيسى قد بدأ فى تصوير نفسه على أنه معارض شرس للنظام، فهم متابعوه كذلك، وكان البعض يتعجب من هذه الجرأة، التى عادت بصاحبها إلى سيرته الأولى، وفى لحظة فقدوا الثقة فيه، فقد تعاملوا معه على أن ما يفعله ليس إلا تمثيلية محبوكة ومصنوعة، فإذا كان يعارض بهذه الشراسة فلماذا يجلس إلى مائدة الرئيس، كان يكفيه أن يقول ما لديه ويمضى.
من يقولون هذا لا يعرفون قواعد اللعبة بين السياسة والصحافة فى مصر، فالذى لا يذهب إلى الرئيس يفعل ذلك، لأن أحدًا لم يدعه من الأساس، أما من يتلقى الدعوة فهو يهرول، وهو ما حدث تحديدًا مع إبراهيم عيسى.
ويمكن أن تحتج على ما أقوله، وتتحدث عن عدم ظهور إبراهيم عيسى تحديدًا فى مناسبات يظهر فيها السيسى، فهو لم يسافر معه كثيرًا، ولم يصاحبه فى زيارات عديدة قام بها، ورغم أن هذا صحيح، إلا أنه لا يدل على تعفف الكاتب، بقدر ما يعكس تعاليه، فهو لا يريد أن يظهر فى الصورة إلى جوار إعلاميين آخرين، يرى أنهم أقل منه شأنًا، ثم ما الذى يربحه عندما يجد نفسه إلى جوار من يعتبرهم لا يقاربونه قيمة ومقامًا، إنه يريد أن يكون الرابح الوحيد.
وهنا سؤال لا يمكن أن أتجاوزه وهو: هل
يهاجم إبراهيم عيسى السيسى الذى يعرفه وجلس معه واستمع منه ويعرف جيدًا حسن نواياه
ومقاصده ورغبته فى العمل والإنجاز والنجاح؟
أغلب الظن أن إبراهيم يهاجم معنى أكثر
من هجومه على شخص، فلا يزال أسيرًا لعقدة وضع رأسه برأس الرئيس، فهو لن ينزل
بمستوى الهجوم لأقل من رئيس جمهورية، حتى لو كان مقتنعًا فى قرارة نفسه أن هذا
الرئيس لا يستحق الهجوم.
هناك أسطورة حاول البعض أن يروجها عن
إبراهيم عيسى، وهى أنه يكتب للرئيس عبدالفتاح السيسى بعض خطبه، وهو أمر ليس صحيحًا
على الإطلاق، فلا يستعين السيسى فيما أعلم بكُتّاب صحفيين ليكتبوا له خطبه أو
كلماته التى يلقيها على الشعب، لديه مكتبه، وأعرف أنه يصيغ بعض الكلمات بنفسه، لكن
من فعلوا ذلك ولا أستبعد أن يكون هذا برعاية من إبراهيم نفسه، حاولوا أن يصنعوا له
دورًا، يماثل الدور الذى كان يلعبه هيكل فى حياة عبدالناصر، وهو الدور الذى يحلم
به الصحفيون المصريون دون استثناء، ناسين أو متناسين أن الزمن نفسه تجاوز هذه
الصيغة تمامًا.
ما يحدث بالفعل أن إبراهيم عيسى يضبط
بوصلته على اتجاه الرئيس، يعرف هو ما الذى يريده عبدالفتاح السيسى، يعبر عنه بصيغه
البلاغية، وعندما يتحدث السيسى، ويتصادف أن يكون هناك تماس مع ما يقوله إبراهيم،
يخرج علينا من يوحى للناس أن إبراهيم هو صاحب الفكرة والصياغة، رغم أنه فعليًا
يردد ما يقوله الرئيس، ولا يهتم الناس كثيرًا برصد من سبق من، ولا من قال الكلام أولًا.
إننا أمام نموذج مهنى نادر، إبراهيم
يتمتع بقدرة هائلة على إثارة الدهشة، يمتلك كنزًا متجددًا من الأفكار، لكنه فى
النهاية نموذج لا يعبر إلا عن نفسه، يجذب إليه أصحاب المواهب يحصل منهم على ما
يريده، ثم لا يبقى على أحد منهم، فالمهم عنده أن يبقى هو وحده، يمنح نفسه تقييمًا
يتجاوز بكثير ما هو عليه، وما زلت أتذكر ما قاله لى أحد أصدقائه بعد إغلاق تجربة "الدستور"
الأولى: مشكلة إبراهيم عيسى إنه مش عاوز يبقى رئيس تحرير.. إبراهيم عاوز يبقى رئيس
جمهورية.. ويبدو أن هذه هى المشكلة التى تؤرقه بالفعل.
قد يكون من حقه أن يرى نفسه بالصورة
التى يريدها، وقد يكون من حقه أن يحلم بأن يكون رئيس جمهورية بالفعل.. لكن ما ليس
من حقه أن يحرق العالم، لأن هناك من يحول بينه وبين تحقيق حلمه.