أزمة الدولار الأخيرة نتيجة طبيعية للتفاوت الكبير في مصر بين الطلب والعرض على العملة الخضراء، والذي تعد أحد أسبابه فاتورة الواردات الضخمة والمتزايدة عاما بعد الآخر، والمتتبع لتلك الفاتورة يستغرب كيف تشهد ارتفاعًا كبيرًا في السنوات الخمس الأخيرة على الرغم من حالة الانكماش التي تمر بها مصر، فضلا عن استمرار تدفق السلع الاستفزازية التي تخص المُستهلكين الأثرياء وحدهم وتستنزف العملة الصعبة.
البنك المركزى اضطر في بداية العام إلى زيادة سعر الدولار مقابل الجنيه في يوليو الماضى، ثم كرر الزيادة في الشهر الحالى ليصل السعر إلى ٨٠٣ قروش للبيع بالبنوك، ولنحو ٨٦٠ قرشا للبيع في الصرافة، ومع اضطرار البنك المركزى إلى ضخ عملة صعبة في الأسواق، فإن وضع الاحتياطي الأجنبى لديه في خطر خاصة أنه انخفض في بداية شهر أكتوبر الحالى إلى ١٦ مليارا و٣٠٠ مليون دولار.
جهاز الإحصاء يذكر أن فاتورة الواردات المصرية ارتفعت من ٤٩ مليار دولار عام ٢٠١٠ إلى ٥٤.١ مليار دولار عام ٢٠١١ ثُم إلى ٥٩.٨ مليار دولار عام ٢٠١٣ وأخيرا إلى ٦٠.٨ مليار دولار في العام الماضى.
واللافت للنظر أن كثيرا من السلع المستوردة يمكن الاستغناء عنها بدلا من الضغط على العملة الصعبة، خاصة أن الظروف التي تمر بها مصر حاليا تستلزم سياسات انكماشية قوية تُحد من تدفق مثل هذه السلع.
والمتابع لفاتورة الواردات في العام المالى الحالى (٢٠١٤ ـ٢٠١٥ ) يكتشف أن مصر تستورد سيارات أفراد «ملاكى» بنحو ٣ مليارات و٢٠٠ مليون دولار، رغم أن هناك ١٧ مصنعا محليا لديه ٢٧ خط إنتاج يعمل فيها نحو ٧٩ ألف شخص طبقا لبيانات رابطة صناعة السيارات، ورغم أن المصانع العاملة في تجميع السيارات داخل مصر تعمل بتوكيلات من الشركات الأم، إلا أن هناك عمليات استيراد موسعة لماركات أخرى لا تُنتج في مصر، والغريب أن هناك أيضا عمليات استيراد لماركات يتم تجميعها في مصر.
كذلك تضم قائمة الواردات الاستفزازية أجهزة محمول وإكسسواراتها بمليار و٨٠ مليون دولار، وإذا كان متوسط الجهاز الواحد مائة دولار فإن ذلك يعنى أننا استوردنا ١٠ ملايين و٨٠٠ ألف جهاز موبايل جديد خلال العام.
فضلا عن ذلك فقد بلغت قيمة ميزانية الملابس الجاهزة التي استوردتها مصر في العام الماضى نحو مليار دولار، وذلك رغم أن مصر دولة لها تاريخ في صناعة الملابس وتقوم بتصدير الملابس الجاهزة إلى أوروبا والولايات المتحدة.
والواضح أن تلك الواردات تتمثل في نوعيتين الأولى تُمثل الملابس الصينية رخيصة السعر التي تباع في الأسواق الشعبية والثانية تمثل الماركات العالمية من بعض نوعيات الملابس الرجالى أو الحريمى والتي تُنتج في دول أوربا وتُركيا ويتم تصديرها إلى طبقة الأثرياء في مصر، وتقريبا نفس الأمر في قطاع الأحذية حيث تبلغ قيمة الواردات نحو ١٣٥ مليون دولار سنويا، ومن المعروف أن مصر لديها أكثر من ١٣٠٠ مصنع يعمل في هذا المجال.
وتستورد مصر سُكر بنحو ٢.٥ مليار دولار رغم أن مصر كانت دولة متميزة في إنتاج السكر وهو يتم استيراده ليدخل في صناعات الحلوى والشيكولاتة والعصائر.
والمُلفت أن واردات بعض المأكولات والمشروبات تفوق الخيال، فمثلا تستورد مصر بنصف مليار دولار فواكه منها ٤٠٠ مليون دولار تُفاح فقط رغم أنه تتم زراعة التفاح في مصر ويقوم البعض بتصديره.
كما تضم قائمة السلع الاستفزازية الأكل الخاص بالقطط والكلاب بنحو ١٣٥ مليون دولار، وكافيار وجمبرى بـ٨٠ مليون دولار وياميش رمضان بـ١٠٥ ملايين دولار، فضلا عن شيكولاتة بـ٦٠ مليون دولار.
وفى تصور كثير من الاقتصاديين فإن استمرار تدفق مثل هذه السلع إلى مجتمع فقير يعانى من مشكلات في الاقتصاد يمثل عنصر ضغط على العملة الصعبة ويساهم في زيادة الفجوة بين الواردات والصادرات، ويرى هؤلاء أن الدولة مُطالبة باتخاذ إجراءات حازمة لتقييد الاستيراد والحد من الواردات السفيهة، ويضربون الأمثلة بما فعلته بعض الدول من وضع رسوم جمارك عالية على السلع الترفيهية أو حظر فتح اعتمادات مستندية لها حفاظا على الاستقرار الاقتصادى والمالى.
إنهم يرون أن استمرار تدفق السيارات الفارهة ونوعيات الجبن الفاخر والسجائر الأجنبية والخمور المستوردة وأكل القطط والكلاب والكافيار والجمبرى والاستاكوزا من الخارج في مجتمع تزيد فيه نسبة الفقراء على ٤٠٪ يعنى أن المسئولين عن التجارة الخارجية لا ينظرون إلى الأمن الاجتماعى في مصر.
والحلول من وجهة نظرهم عديدة، يمكن مثلا طبقا لوجهة نظر المهندس حمدى عبدالعزيز رئيس غرفة الصناعات الهندسية أن تتم زيادة الرسوم الجمركية على كل السلع الترفيهية لتصبح بنفس قيمة السلعة، ويرى أن ذلك معمول به في عدة دول تسعى إلى تحقيق استقرار اجتماعى لديها. ويقول إن مَن يريد أن يركب سيارة ««بى إم دبليو» عليه أن يدفع للدولة ما يُعادل قيمتها وعليه أن يدفع رسوما أعلى في التراخيص وعليه ألا يتمتع بالدعم الخاص بالبنزين.
يُمكن أيضا أن يكون تحريك سعر الدولار بمثابة ضربة قاصمة لمستوردى تلك السلع، ويرى المهندس صفوان ثابت رئيس مجموعة «جهينة» للصناعات الغذائية أن تحرير سعر الدولار يحد كثيرا من مهزلة استيراد السلع الاستفزازية، لأن ارتفاع السعر سيدفع كثيرا من المستوردين إلى التوقف عن استيراد سلع لا يجد لها مُستهلكا بعد أن يتضاعف سعرها.
ويقول الدكتور عبدالنبى عبد المطلب الخبير الاقتصادى إن فاتورة الواردات في حاجة إلى ترشيد، خاصة أن مصر دولة مُنتجة ولديها قاعدة صناعية قديمة، ويرى أن كثيرا من بنود الواردات تُمثل سلعا غير أساسية يقتصر استهلاكها على فئات بعينها من الشعب وأنه لا بد من تقييد لتلك الواردات عن طريق الآليات التي نصت عليها اتفاقية التجارة العالمية «الجات» مثل فرض رسوم حمائية أو رسوم إغراق أو زيادة الرسوم الجمركية على السلع الخاصة بالأثرياء، وفى المجمل فإن استمرار الوضع الحالى يُنذر بكارثة على حسب قوله.