قدوته في التحول من «الدعوة» للعنف المسلح صالح سرية «المتهم بإسقاط النظام»
اخترق مغارات «الإخوان» فى السجن.. وأعلن توبته وإطلاق «تنظيم جديد»
آمن بكتب سيد قطب و«كفّر المجتمع».. فأسس «التكفير والهجرة»
القصة كلها لغم.. من يقترب منه يحترق.
ولماذا نقترب الآن؟
لا يزال شكرى مصطفى يصيغ شيئًا من عقيدة مجموعة تعيش هنا، تعتبره مخزونًا طبيعيًا لأفكارها، ومصنعًا لدورها.
شكرى مصطفى مصنع إرهاب لا تتوقف خطوط إنتاجه عند شخص أو جماعة أو تنظيم.. ولكن يحافظ لنفسه على الحيوية والتجدد باستمرار.
ظلَّ عدنان إبراهيم يقول إن «أبو بكر البغدادي» امتداد لشكرى مصطفى وجهيمان.. كان السؤال حاضرًا: وهل تنتهى الشخصيات التى تغير خط سير التاريخ؟
الإجابة.. لا.
وهل تموت؟.. وهل تعيش للأبد؟
كلها تموت فى عملية إرهابية أو اغتيال من جانب جهاز أمنى.. بن لادن مثال قريب.. حاصرته القوات الأمريكية، اقتربت منه، جنَّدت أقرب الناس إلى قلبه وسريره وحياته، وجرى التفتيش وراءه لسنوات، وفى الوقت المناسب قبضت روحه.
هذه طريقة الحكومات المضمونة فى صياغة التاريخ، ووراء كل الأحداث والحوادث والوقائع وطلقات الرصاص والبارود وقنابل الدخان شخصيات وضعت القدر فى حرج.
لديّ إعجابٌ صريح بكل الشخصيات التى اختارت قدرها وصاغته، ولم تخضع لخط إنتاج وتفريغ وتفريخ البشر.. الذى يلعب دوره فى مصر تماما.. وهم كثر فى التاريخ الإسلامى، بداية من عمر بن الخطاب، مرورًا بمعاوية بن أبى سفيان، وحتى أبو بكر البغدادى.
«الخليفة المشبوه» ليس مثيرًا للإعجاب فقط، ولكنه مثير للشفقة أيضًا، وتعيش إمبراطوريته الهشّة على جسر من الخرافات والتخاريف والأكاذيب.. لكن الغريب أنه آمن بمشروع «وهمي»، حوّله إلى دعوة، ونشر دعوته بين آلاف «الإسلاميين»، واحتلّ -فعليًا– دولة، وصنع ملكًا عضوضًا لن يزول قريبًا.
لو مات «البغدادي» غدًا.. لن يخرج من كتب التاريخ.
يظلّ حيًّا ومؤثرًا وخالدًا فى الروايات المتناقلة.. بالذم والمدح معًا.. فقط لأنه صنع دولة من لا شيء.
شكرى مصطفى أيضًا يحتلّ موقعًا لا يقلّ عن أبى بكر البغدادى.
من أين بدأ؟
فشلت محاولة صالح سرية فى الانقلاب على النظام المصرى، ولم يجن من عنفه وإرهابه إلا الموت، لكنه رغم الرحيل ترك فكرته تسعى على الأرض. تابع شاب إخوانى يدعى شكرى مصطفى تجربة صالح سرية فى التحول من الدعوة باللسان إلى العنف المسلح ضد الدولة، اعتقد مصطفى خطأ أنه قادر على تفادى نفس المصير، والنجاح فى الوصول إلى السلطة، تغذى على كتابات سيد قطب، وآمن بمفاهيم الحاكمية وجاهلية المجتمع وعمل على تطويرها، فتفتق ذهنه عن التصريح بالتكفير والدعوة إلى الهجرة من المجتمعات الإسلامية المعاصرة بدعوة تكفيرها، داعيا إلى حمل السلاح فى مواجهة الأنظمة العربية، فكان علامة بارزة فى سجل إرهاب السبعينيات.
افتتن «شكري» بجماعة «الإخوان» عندما كان طالبا فى كلية الزراعة، وارتبط بسيد قطب، فكان طبيعيا أن يُلقى القبض عليه ضمن حملات القبض على المتهمين فى تنظيم ١٩٦٥، ومكث فى السجن ٦ سنوات خرج بعدها أكثر تشددا وكراهية للمجتمع، بعدما تشبع بأفكار قطب حول جاهلية المجتمع. داخل السجن، بدأ الشاب شكرى، وهو فى الـ٢٣ من عمره، وهو يتعرض للتعذيب يوميًّا فى استكشاف مغارات «الإخوان»، تجلَّت حقيقة الجماعة «الخبيثة» التى تعانى من محنة قاسية أمامه.
يؤرخ الباحث الراحل أيمن عبد الرسول لسيرة حياة «شكري» فى مقال بعنوان «إعدام أمير المؤمنين شكرى مصطفى»، قائلًا:
«فى سبتمبر ١٩٧٣م أمر بخروج أعضاء الجماعة إلى المناطق الجبلية واللجوء إلى المغارات الواقعة بدائرة (أبو قرقاص) بمحافظة المنيا بعد أن تصرفوا بالبيع فى ممتلكاتهم وزودوا أنفسهم بالمؤن اللازمة والسلاح الأبيض، تطبيقًا لمفاهيمه الفكرية حول الهجرة.
فى ٢٦ أكتوبر ١٩٧٣م اشتبه فى أمرهم رجال الأمن المصرى فتم إلقاء القبض عليهم، وتقديمهم للمحاكمة فى قضية رقم ٦١٨ لسنة ٧٣ أمن دولة عليا. فى ٢١ إبريل ١٩٧٤م عقب حرب أكتوبر ١٩٧٣م صدر قرار جمهورى بالعفو عن مصطفى شكرى وجماعته، إلا أنه عاود ممارسة نشاطه مرة أخرى، ولكن هذه المرة بصورة مكثفة أكثر من ذى قبل، حيث عمل على توسيع قاعدة الجماعة، وإعادة تنظيم صفوفها، وقد تمكن من ضم أعضاء جدد للجماعة من شتى محافظات مصر، وشراء أراض زراعية وبناء مجتمع لهم فى مديرية التحرير، كما قام بتسفير مجموعات أخرى إلى خارج البلاد بغرض التمويل، مما مكن لانتشار أفكارهم فى أكثر من دولة.
هيأ شكرى مصطفى لأتباعه بيئة متكاملة من النشاط، وشغلهم بالدعوة والعمل والصلوات والدراسة، وإذا ترك العضو الجماعة أُعتُبِرَ كافرًا، حيث اعتبر المجتمع خارج الجماعة كله كافرًا، ومن ثم يتم تعقبه وتصفيته جسديا.
■ ■ ■
ومن أبرز ما اتسمت به «جماعة المسلمين» كما أطلق عليها شكرى مصطفى من واقع أقواله أمام هيئة محكمة أمن الدولة العسكرية العليا (القضية رقم ٦ لسنة ١٩٧٧)، والتى نشرت فى الصحف يوم ٢١/١٠/١٩٧٩:
- إن كل المجتمعات القائمة مجتمعات جاهلية وكافرة قطعًا.
■ إننا نرفض ما يأخذون من أقوال الأئمة والإجماع وسائر المسميات الأخرى كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة.
■ إن الالتزام بجماعة المسلمين ركن أساس كى يكون المسلم مسلمًا، ونرفض ما ابتدعه فقهاء السلاطين من تقاليد، وما رخصوا لأنفسهم فيه، وقد أسلموا أمرهم إلى الطاغوت، وهو: الحكم بغير ما أنزل الله، واعتبروا كل من ينطق بالشهادتين مسلمًا.
■ إن الإسلام لا يثبت بالشهادتين فقط، ولكنه إقرار وعمل، ومن هنا كان المسلم الذى يفارق جماعة المسلمين كافرًا.
على كل حال اختلفت أفكار الجماعة بالمسالمة فى أول الأمر، وتقوم فلسفتها على عدم الاصطدام بالسلطة، ولكن بعد وصم المجتمع بالكفر والعودة إلى الجاهلية اعتبر أن جماعته هى الفرقة الوحيدة المسلمة فى هذا الكون، ودعا شكرى إلى الانعزال عن هذا المجتمع والهجرة بعيدًا عن الكفار، وذلك للإخلاء بين الله والكافرين، لينقض عليهم، ويبيدهم بإحدى سننه (بحرب كونية مثلاً)، وفى هذه الحالة تخرج جماعة المسلمين لتقاتل من تبقَّى من الكفار، وهم اليهود الذين سيأتون من ناحية إيران».
■ ■ ■
يعتقد أن القضية ثارت بعدما بدأت الجماعة تواجه بعض المشكلات الداخلية نظرًا إلى اتساعها وتوزعها فى الداخل والخارج، خصوصًا أن شكرى لم يكن يتحمل الخروج عنه، ويعتبر كل من خرج عن جماعته مرتدًّا عن الإسلام يجب قتله، ولحدوث بعض أحداث العنف فيما بينهم بدأت هذه الحوادث تلفت نظر جهات الأمن، ليكتشفوا أن وراء هذه الحالات من الاعتداء تنظيمًا دينيا كبيرًا، يمكن فى أى لحظة أن يتحول بالعنف تجاه النظام، ومع تكشف بعض أسرار التنظيم على يد ضحاياه من المنشقين بدأت حملة اعتقالات لأفراد الجماعة.
ولم يجد شكرى مصطفى بدًّا أمام هذه الضربات البوليسية إلا الرد متمثلاً فى عملية اختطاف يساوم بها النظام على الإفراج عن المعتقلين.
الذهبى لماذا؟
الشيخ الذهبى عالم كبير ووزير سابق، له وزنه فى المجتمع، ولدى الحكومة، وهذا الرجل قد بلّغ بالدعوة وعلمها مبلغا، بدليل كتابه الذى يرد على أفكار التنظيم فكرة فكرة، لم يكتف الشيخ برفض أفكار الجماعة، بل أعلن موقفًا مناهضًا لها، بالإضافة إلى أنه كان هدفًا سهلاً ولا توجد عليه حراسة!
منذ اللحظة الأولى كان موقف الحكومة، ممثلة فى رئيس وزرائها وزير الداخلية السابق «ممدوح سالم»، هو عدم التنازل والمواجهة، لكنها أوهمت الجماعة بالرغبة فى المفاوضات بغية كسب الوقت وتأخير قتل الرهينة حتى تستطيع تحديد المكان، وإعداد خطة لتخليص الشيخ، وبينما كانت تجرى مع الجماعة مفاوضات صورية كان عملاؤها يمسحون القاهرة طولاً وعرضًا بحثًا عن الضحية، وتركز بحثهم على الشقق المفروشة، وبالصدفة اشتبهوا فى إحدى الشقق، وبمهاجمة الشقة عثر بداخلها على شخصين من الجماعة هما «أحمد نصر الله حجاج وصبرى محمد القط»، وعُثر على مدفع رشاش، وألف طلقة ذخيرة، ورسم كروكى لبيت الشيخ الذهبى، وخطابات متبادلة بين أعضاء التنظيم، وأوراق أخرى، كان من بينها عقد إيجار فيلا مفروشة فى شارع فاطمة رشدى فى الهرم، وفى أثناء التفتيش حضر شخص ثالث، ما إن شاهد رجال الأمن حتى حاول ابتلاع ورقة كان يحملها، فمنعوه، وأخرجوها من فمه، وتبين أنها رسالة بنقل جثمان الدكتور الذهبى من الفيلا المفروشة على عربة كارو، بعد إجراء عمليات التمويه، لتُلقى مع النشادر فى مصرف قريب، فتمت مهاجمة الفيلا المفروشة، وعثر على جثة الشيخ الذهبى.
بينما كان شكرى يقيم فى إحدى الشقق المفروشة بمنطقة «حدائق القبة» مع زوجته «شقيقة محمد النجار مسئول التنظيم»، وعلى الرغم من أنه لم يكن أحد من الجماعة يعلم مكان إقامته، فقد شعر بضيق الخناق عليه، فبدأ فى البحث عن مكان أكثر أمانًا، وحين عودته لم يجد القميص الأسود منشورًا فى البلكونة، فعرف أن الشرطة قد هاجمت المكان، فعاد يسير فى الشوارع على غير هدى، وبعد أن تعب من السير هداه تفكيره أن يركب القطار إلى بنها، حيث توجد خلية مؤمَّنة يستطيع اللجوء إليها لإخفائه، ومن التعب والإرهاق وعدم التركيز ركب قطار المرج بالخطأ، وعندما اكتشف ذلك قرر النزول فى محطة عزبة النخل لوجود بعض أتباعه بها، وسار يجر قدماه فى شوارع القرية غير قادر على الاهتداء إلى البيت الذى يسكنون فيه، والنسوة أمام البيوت يتطلعن مرتابات إلى هذا الغريب ذى اللحية الطويلة والملابس القصيرة، زائغ النظرات، وبالصدفة يلتقى به مخبر كان يعمل فى السجن الحربى، ويعرفه جيدًا، فيمد المخبر يده بالمصافحة، ويمسك بيد شكرى بشدة، ويسأله عن اسمه، وعندما يرد عليه باسم آخر يقول له: بل أنت شكرى مصطفى ويقتاده إلى نقطة الشرطة!!
فى ٣٠ مارس عام ١٩٧٨، بسجن الاستئناف بالقاهرة، تم تنفيذ حكم الإعدام فى كل من:
- شكرى أحمد مصطفي- أحمد طارق عبد العليم- أنور مأمون صقر- ماهر عبد العزيز بكري- مصطفى عبد المقصود غازى.
وكان جزء من النص القانونى للاتهام «اشتركوا فى اتفاق جنائى لمحاولة قلب وتغيير دستور الدولة ونظامها الجمهورى وشكل الحكومة بالقوة بأن أقاموا تنظيما سريًا يدعو إلى فرض الجهاد ضد نظام الحكم القائم، والقضاء عليه بالقوة، بدعوى تعارض هذا النظام مع أحكام الشريعة الإسلامية».
اخترق مغارات «الإخوان» فى السجن.. وأعلن توبته وإطلاق «تنظيم جديد»
آمن بكتب سيد قطب و«كفّر المجتمع».. فأسس «التكفير والهجرة»
القصة كلها لغم.. من يقترب منه يحترق.
ولماذا نقترب الآن؟
لا يزال شكرى مصطفى يصيغ شيئًا من عقيدة مجموعة تعيش هنا، تعتبره مخزونًا طبيعيًا لأفكارها، ومصنعًا لدورها.
شكرى مصطفى مصنع إرهاب لا تتوقف خطوط إنتاجه عند شخص أو جماعة أو تنظيم.. ولكن يحافظ لنفسه على الحيوية والتجدد باستمرار.
ظلَّ عدنان إبراهيم يقول إن «أبو بكر البغدادي» امتداد لشكرى مصطفى وجهيمان.. كان السؤال حاضرًا: وهل تنتهى الشخصيات التى تغير خط سير التاريخ؟
الإجابة.. لا.
وهل تموت؟.. وهل تعيش للأبد؟
كلها تموت فى عملية إرهابية أو اغتيال من جانب جهاز أمنى.. بن لادن مثال قريب.. حاصرته القوات الأمريكية، اقتربت منه، جنَّدت أقرب الناس إلى قلبه وسريره وحياته، وجرى التفتيش وراءه لسنوات، وفى الوقت المناسب قبضت روحه.
هذه طريقة الحكومات المضمونة فى صياغة التاريخ، ووراء كل الأحداث والحوادث والوقائع وطلقات الرصاص والبارود وقنابل الدخان شخصيات وضعت القدر فى حرج.
لديّ إعجابٌ صريح بكل الشخصيات التى اختارت قدرها وصاغته، ولم تخضع لخط إنتاج وتفريغ وتفريخ البشر.. الذى يلعب دوره فى مصر تماما.. وهم كثر فى التاريخ الإسلامى، بداية من عمر بن الخطاب، مرورًا بمعاوية بن أبى سفيان، وحتى أبو بكر البغدادى.
«الخليفة المشبوه» ليس مثيرًا للإعجاب فقط، ولكنه مثير للشفقة أيضًا، وتعيش إمبراطوريته الهشّة على جسر من الخرافات والتخاريف والأكاذيب.. لكن الغريب أنه آمن بمشروع «وهمي»، حوّله إلى دعوة، ونشر دعوته بين آلاف «الإسلاميين»، واحتلّ -فعليًا– دولة، وصنع ملكًا عضوضًا لن يزول قريبًا.
لو مات «البغدادي» غدًا.. لن يخرج من كتب التاريخ.
يظلّ حيًّا ومؤثرًا وخالدًا فى الروايات المتناقلة.. بالذم والمدح معًا.. فقط لأنه صنع دولة من لا شيء.
شكرى مصطفى أيضًا يحتلّ موقعًا لا يقلّ عن أبى بكر البغدادى.
من أين بدأ؟
فشلت محاولة صالح سرية فى الانقلاب على النظام المصرى، ولم يجن من عنفه وإرهابه إلا الموت، لكنه رغم الرحيل ترك فكرته تسعى على الأرض. تابع شاب إخوانى يدعى شكرى مصطفى تجربة صالح سرية فى التحول من الدعوة باللسان إلى العنف المسلح ضد الدولة، اعتقد مصطفى خطأ أنه قادر على تفادى نفس المصير، والنجاح فى الوصول إلى السلطة، تغذى على كتابات سيد قطب، وآمن بمفاهيم الحاكمية وجاهلية المجتمع وعمل على تطويرها، فتفتق ذهنه عن التصريح بالتكفير والدعوة إلى الهجرة من المجتمعات الإسلامية المعاصرة بدعوة تكفيرها، داعيا إلى حمل السلاح فى مواجهة الأنظمة العربية، فكان علامة بارزة فى سجل إرهاب السبعينيات.
افتتن «شكري» بجماعة «الإخوان» عندما كان طالبا فى كلية الزراعة، وارتبط بسيد قطب، فكان طبيعيا أن يُلقى القبض عليه ضمن حملات القبض على المتهمين فى تنظيم ١٩٦٥، ومكث فى السجن ٦ سنوات خرج بعدها أكثر تشددا وكراهية للمجتمع، بعدما تشبع بأفكار قطب حول جاهلية المجتمع. داخل السجن، بدأ الشاب شكرى، وهو فى الـ٢٣ من عمره، وهو يتعرض للتعذيب يوميًّا فى استكشاف مغارات «الإخوان»، تجلَّت حقيقة الجماعة «الخبيثة» التى تعانى من محنة قاسية أمامه.
يؤرخ الباحث الراحل أيمن عبد الرسول لسيرة حياة «شكري» فى مقال بعنوان «إعدام أمير المؤمنين شكرى مصطفى»، قائلًا:
«فى سبتمبر ١٩٧٣م أمر بخروج أعضاء الجماعة إلى المناطق الجبلية واللجوء إلى المغارات الواقعة بدائرة (أبو قرقاص) بمحافظة المنيا بعد أن تصرفوا بالبيع فى ممتلكاتهم وزودوا أنفسهم بالمؤن اللازمة والسلاح الأبيض، تطبيقًا لمفاهيمه الفكرية حول الهجرة.
فى ٢٦ أكتوبر ١٩٧٣م اشتبه فى أمرهم رجال الأمن المصرى فتم إلقاء القبض عليهم، وتقديمهم للمحاكمة فى قضية رقم ٦١٨ لسنة ٧٣ أمن دولة عليا. فى ٢١ إبريل ١٩٧٤م عقب حرب أكتوبر ١٩٧٣م صدر قرار جمهورى بالعفو عن مصطفى شكرى وجماعته، إلا أنه عاود ممارسة نشاطه مرة أخرى، ولكن هذه المرة بصورة مكثفة أكثر من ذى قبل، حيث عمل على توسيع قاعدة الجماعة، وإعادة تنظيم صفوفها، وقد تمكن من ضم أعضاء جدد للجماعة من شتى محافظات مصر، وشراء أراض زراعية وبناء مجتمع لهم فى مديرية التحرير، كما قام بتسفير مجموعات أخرى إلى خارج البلاد بغرض التمويل، مما مكن لانتشار أفكارهم فى أكثر من دولة.
هيأ شكرى مصطفى لأتباعه بيئة متكاملة من النشاط، وشغلهم بالدعوة والعمل والصلوات والدراسة، وإذا ترك العضو الجماعة أُعتُبِرَ كافرًا، حيث اعتبر المجتمع خارج الجماعة كله كافرًا، ومن ثم يتم تعقبه وتصفيته جسديا.
■ ■ ■
ومن أبرز ما اتسمت به «جماعة المسلمين» كما أطلق عليها شكرى مصطفى من واقع أقواله أمام هيئة محكمة أمن الدولة العسكرية العليا (القضية رقم ٦ لسنة ١٩٧٧)، والتى نشرت فى الصحف يوم ٢١/١٠/١٩٧٩:
- إن كل المجتمعات القائمة مجتمعات جاهلية وكافرة قطعًا.
■ إننا نرفض ما يأخذون من أقوال الأئمة والإجماع وسائر المسميات الأخرى كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة.
■ إن الالتزام بجماعة المسلمين ركن أساس كى يكون المسلم مسلمًا، ونرفض ما ابتدعه فقهاء السلاطين من تقاليد، وما رخصوا لأنفسهم فيه، وقد أسلموا أمرهم إلى الطاغوت، وهو: الحكم بغير ما أنزل الله، واعتبروا كل من ينطق بالشهادتين مسلمًا.
■ إن الإسلام لا يثبت بالشهادتين فقط، ولكنه إقرار وعمل، ومن هنا كان المسلم الذى يفارق جماعة المسلمين كافرًا.
على كل حال اختلفت أفكار الجماعة بالمسالمة فى أول الأمر، وتقوم فلسفتها على عدم الاصطدام بالسلطة، ولكن بعد وصم المجتمع بالكفر والعودة إلى الجاهلية اعتبر أن جماعته هى الفرقة الوحيدة المسلمة فى هذا الكون، ودعا شكرى إلى الانعزال عن هذا المجتمع والهجرة بعيدًا عن الكفار، وذلك للإخلاء بين الله والكافرين، لينقض عليهم، ويبيدهم بإحدى سننه (بحرب كونية مثلاً)، وفى هذه الحالة تخرج جماعة المسلمين لتقاتل من تبقَّى من الكفار، وهم اليهود الذين سيأتون من ناحية إيران».
■ ■ ■
يعتقد أن القضية ثارت بعدما بدأت الجماعة تواجه بعض المشكلات الداخلية نظرًا إلى اتساعها وتوزعها فى الداخل والخارج، خصوصًا أن شكرى لم يكن يتحمل الخروج عنه، ويعتبر كل من خرج عن جماعته مرتدًّا عن الإسلام يجب قتله، ولحدوث بعض أحداث العنف فيما بينهم بدأت هذه الحوادث تلفت نظر جهات الأمن، ليكتشفوا أن وراء هذه الحالات من الاعتداء تنظيمًا دينيا كبيرًا، يمكن فى أى لحظة أن يتحول بالعنف تجاه النظام، ومع تكشف بعض أسرار التنظيم على يد ضحاياه من المنشقين بدأت حملة اعتقالات لأفراد الجماعة.
ولم يجد شكرى مصطفى بدًّا أمام هذه الضربات البوليسية إلا الرد متمثلاً فى عملية اختطاف يساوم بها النظام على الإفراج عن المعتقلين.
الذهبى لماذا؟
الشيخ الذهبى عالم كبير ووزير سابق، له وزنه فى المجتمع، ولدى الحكومة، وهذا الرجل قد بلّغ بالدعوة وعلمها مبلغا، بدليل كتابه الذى يرد على أفكار التنظيم فكرة فكرة، لم يكتف الشيخ برفض أفكار الجماعة، بل أعلن موقفًا مناهضًا لها، بالإضافة إلى أنه كان هدفًا سهلاً ولا توجد عليه حراسة!
منذ اللحظة الأولى كان موقف الحكومة، ممثلة فى رئيس وزرائها وزير الداخلية السابق «ممدوح سالم»، هو عدم التنازل والمواجهة، لكنها أوهمت الجماعة بالرغبة فى المفاوضات بغية كسب الوقت وتأخير قتل الرهينة حتى تستطيع تحديد المكان، وإعداد خطة لتخليص الشيخ، وبينما كانت تجرى مع الجماعة مفاوضات صورية كان عملاؤها يمسحون القاهرة طولاً وعرضًا بحثًا عن الضحية، وتركز بحثهم على الشقق المفروشة، وبالصدفة اشتبهوا فى إحدى الشقق، وبمهاجمة الشقة عثر بداخلها على شخصين من الجماعة هما «أحمد نصر الله حجاج وصبرى محمد القط»، وعُثر على مدفع رشاش، وألف طلقة ذخيرة، ورسم كروكى لبيت الشيخ الذهبى، وخطابات متبادلة بين أعضاء التنظيم، وأوراق أخرى، كان من بينها عقد إيجار فيلا مفروشة فى شارع فاطمة رشدى فى الهرم، وفى أثناء التفتيش حضر شخص ثالث، ما إن شاهد رجال الأمن حتى حاول ابتلاع ورقة كان يحملها، فمنعوه، وأخرجوها من فمه، وتبين أنها رسالة بنقل جثمان الدكتور الذهبى من الفيلا المفروشة على عربة كارو، بعد إجراء عمليات التمويه، لتُلقى مع النشادر فى مصرف قريب، فتمت مهاجمة الفيلا المفروشة، وعثر على جثة الشيخ الذهبى.
بينما كان شكرى يقيم فى إحدى الشقق المفروشة بمنطقة «حدائق القبة» مع زوجته «شقيقة محمد النجار مسئول التنظيم»، وعلى الرغم من أنه لم يكن أحد من الجماعة يعلم مكان إقامته، فقد شعر بضيق الخناق عليه، فبدأ فى البحث عن مكان أكثر أمانًا، وحين عودته لم يجد القميص الأسود منشورًا فى البلكونة، فعرف أن الشرطة قد هاجمت المكان، فعاد يسير فى الشوارع على غير هدى، وبعد أن تعب من السير هداه تفكيره أن يركب القطار إلى بنها، حيث توجد خلية مؤمَّنة يستطيع اللجوء إليها لإخفائه، ومن التعب والإرهاق وعدم التركيز ركب قطار المرج بالخطأ، وعندما اكتشف ذلك قرر النزول فى محطة عزبة النخل لوجود بعض أتباعه بها، وسار يجر قدماه فى شوارع القرية غير قادر على الاهتداء إلى البيت الذى يسكنون فيه، والنسوة أمام البيوت يتطلعن مرتابات إلى هذا الغريب ذى اللحية الطويلة والملابس القصيرة، زائغ النظرات، وبالصدفة يلتقى به مخبر كان يعمل فى السجن الحربى، ويعرفه جيدًا، فيمد المخبر يده بالمصافحة، ويمسك بيد شكرى بشدة، ويسأله عن اسمه، وعندما يرد عليه باسم آخر يقول له: بل أنت شكرى مصطفى ويقتاده إلى نقطة الشرطة!!
فى ٣٠ مارس عام ١٩٧٨، بسجن الاستئناف بالقاهرة، تم تنفيذ حكم الإعدام فى كل من:
- شكرى أحمد مصطفي- أحمد طارق عبد العليم- أنور مأمون صقر- ماهر عبد العزيز بكري- مصطفى عبد المقصود غازى.
وكان جزء من النص القانونى للاتهام «اشتركوا فى اتفاق جنائى لمحاولة قلب وتغيير دستور الدولة ونظامها الجمهورى وشكل الحكومة بالقوة بأن أقاموا تنظيما سريًا يدعو إلى فرض الجهاد ضد نظام الحكم القائم، والقضاء عليه بالقوة، بدعوى تعارض هذا النظام مع أحكام الشريعة الإسلامية».