تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ردد الإعلام المصرى صبيحة تولى جمال عبد الناصر رئاسة الجمهورية أنه أول رئيس مصرى، رغم أن مصر كانت قد أصبحت رسميا دولة مستقلة منذ عام ١٩٢٢ حين استقلت عن بريطانيا التى احتلتها عام ١٨٨٢؛ والسؤال هو: من حكم مصر المستقلة من ١٩٢٢ حتى ١٩٥٢. وكيف لدولة مستقلة أن تظل تحت حكم أجنبى طيلة ثلاثين عاما، لقد كانت مصر فى ظل حكم الأسرة العلوية، منذ تمكن محمد على باشا الكبير من الاستقلال بها ولكن ظلت العلاقة قائمة بدولة الخلافة العثمانية.
لست من أهل الاختصاص بعلم التاريخ؛ ولكن القول بأن عبدالناصر هو أول حاكم مصرى يحكم المصريين - وهو قول صحيح تماما - أمر يجد سندا له فى تصرف غريب للسفير التركى فى مصر آنذاك. لقد انتهى حكم الأسرة العلوية رسميا فى ١٨ يونيو ١٩٥٣، وأصبح «البكباشى عبدالناصر» نائبا لرئيس الوزراء، وفى مساء ٢ يناير بمناسبة افتتاح وزارة الإرشاد لموسم دار الأوبرا، دخل البكباشى جمال عبد الناصر فصافح سفير الهند، ثم أبصر السيد فؤاد طوغاى السفير التركى فى أحد أركان الغرفة فحياه، ولكن السيد طوغاى بدلا من أن يرد التحية قال للبكباشى جمال عبد الناصر: «إن تصرفاتكم ليست تصرفات جنتلمان ولن تكون هناك أية صداقة بيننا وبينكم». وتم بناء على ذلك طرد السفير التركى من القاهرة. ولست بصدد الوقوف طويلا أمام دلالة تلك الحادثة القديمة؛ ولا حتى التساؤل عما إذا كان التاريخ يوشك أن يعيد نفسه.
لقد انتهى حكم المصريين لأنفسهم حوالى عام ٣٤١ قبل ميلاد السيد المسيح، وأصبحت مصر منذ ذلك التاريخ الموغل فى القدم جزءا من كيانات أكبر. توالى على حكمها الرومان والبطالمة، وكانت مذاهبهم الدينية تختلف عن المسيحية الأرثوذكسية التى يعتنقها غالبية المصريين آنذاك، وكان طبيعيا أن يظل حاكم مصر من غير أهلها، ثم جاء الفتح العربى عام ٦٤١ ليصبح غالبية المصريين مسلمين يتحدثون العربية؛ ولعلها المرة الأولى فيما أعرف التى يقدم فيها شعب من الشعوب على تغيير لغته إلى جانب تغيير الغالبية لعقيدتها الدينية. لقد دخل الإسلام إيران وباكستان وتركيا وغيرها من البلاد واعتنق غالبية أبناء تلك الدول العقيدة الإسلامية، ورغم ذلك فقد احتفظوا بلغتهم دون أن يجبرهم المسلمون العرب على تغييرها كما فعل المصريون. واستمر الحكم الإسلامى للمصريين فى ظل دولة الخلافة الراشدة ثم الطولونيين فالعباسيين فالإخشيديين فالفاطميين فالأيوبيين فالأتراك العثمانيين، وتنقلت مراكز اتخاذ القرار بالنسبة لشئون المصريين من مكة إلى دمشق إلى بغداد إلى الآستانة، ظل الحكام المسلمون يقومون بتعيين الولاة على الأقطار الخاضعة لحكمهم، وكان أولئك الولاة دائما من أبناء دولة المركز؛ وحتى حين انتقل المركز إلى القاهرة فى العصر الفاطمى لم يخطر ببال أحد من سلاطين المسلمين طيلة تلك القرون تولية مصرى حكم مصر. ذلك رغم كل ما نعرفه يقينا من أن الإسلام يجب ما قبله، وأن المسلمين كأسنان المشط، وأنه لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى، وعرفنا كيف عوقب ابن الأكرمين لأنه ضرب واحدا من المصريين. عرفنا كل ذلك وأضعافه ومع ذلك ظل حكم المصريين حتى بعد إسلامهم فى أيدى غيرهم إلى أن استولى ناصر على السلطة بالقوة ليصبح أول حاكم مصرى يحكم المصريين؛ ويفاجأ بتلك المعاملة الفظة من السفير التركى.
ترى ألا يحمل ذلك التاريخ شبهة أن الأمر كله لا علاقة له بالإسلام من قريب أو بعيد؟ وأنه لا يعدو أن يكون صراع قوى بين دول تسعى للتوسع والاحتلال والسيطرة متسربلة بالرداء الأكثر جاذبية وهو رداء الدين.