لا يتطرق إلينا شك في أن إحدى النتائج الرئيسية لثورة ٣٠ يونيو العظمى في مصر، هي الإطاحة بمشروع إحياء العثمانية مع غيره من الكراكيب والروبابيكيا السياسية التي شملت أفكار الخلافة الإخوانية والشرق الأوسط الأوسع الأمريكى في طبعاتهم الأولى.
أما اليوم فنحن نواجه الطبعات الجديدة المزيدة والمنقحة من المشاريع السياسية المهزومة في ٣٠ يونيو، وضمنها محاولة جديدة لإحياء العثمانية، يتشبث بها رجب طيب أردوغان الرئيس التركى الذي يعلم علم اليقين أن تلك العثمانية إن لم تعد هذه المرة، فسوف يقدر لها أن تنزوى وتموت وتختفى معها الفكرة الإسلاموية في تركيا على المستوى السياسي والتي يعد رمزها هو حزب التنمية والعدالة، وقد اكتسب زخما كبيرا بمده أذرعا وجسورا إلى التنظيمات الإسلامية وراء حدود تركيا والتي كان محورها ومركزها جماعة الإخوان الإرهابية.
ومن المفيد - في هذا الإطار - استعراض مجموعة المحاور التي يتحرك عليها أردوغان - الآن- لمعاودة إحياء العثمانية، وفى توتر عصبى كبير خيم على ما نري - بيقين- أنه معركته الأخيرة..وتنقسم تلك المحاور إلى قسمين أحدهما داخلى والآخر خارجى.
فأما عن الخارجى فبدا واضحا للغاية من خلال خطاب انتخابى لأردوغان استبق الانتخابات التشريعية استفتحه بقوله: (أستذكر بالرحمة والاحترام السلطان محمد الفاتح وجيشه المجيد وأبارك الذكرى ٥٦٢ لفتح إسطنبول) والمعروف أن السلطان محمد الفاتح هو الذي قام بتحويل عاصمة الدولة البيزنطية إلى مقر للسلطة العثمانية، يعنى رمزية الإشارة إليه ليست اعتزازا بقطعة من التاريخ التركى ولكنها تذكير لأوربا - بالذات - بخضوعها إلى تركيا، وكأن أردوغان ينتقم من الاتحاد الأوربي الذي رفض انتماء تركيا إليه، حين قال ديستان عام ٢٠٠٢ «إن أوربا ناد مسيحي»..وقد اتسعت رقعة الإشارات التي احتواها خطاب أردوغان لتشمل (الديني) فوق (التاريخى أو الوطني) حين اختتمها بعرض لقطات فيديو للأذان من مئذنة متحف أياصوفيا الذي كان أكبر كاتدرائية مسيحية لمدة تسعمائة عام، وقد حولها العثمانيون إلى مسجد.. يعنى الرمزية التي أرادها أردوغان هي التذكير بانتصار الإسلام على المسيحية التي أرادت الاتحاد الأوربي ناديا مغلقا عليها.
في هذا الإطار أيضا كان التضاغط الأوربي/ التركى حول ذكرى مذابح الأرمن في الحرب العالمية الأولى، والتي امتنع أردوغان عن عدم تقديم اعتذار عنها حين حلت في إبريل الفائت، بعد أن أمضت دولة تركيا سنوات طويلة في تجييش مؤرخين دوليين ولتوقيع بيان عام ١٩٨٥ يبرئ الأتراك من تلك المذابح (بيان وقعه ٨٥ مؤرخا بينهم برنارد لويس) وهو ما عدل أولئك المؤرخين عنه على أية حال.
وعلى المستوى الداخلى راح أردوغان يدعم رئاسته (وهو ما يحاول الآن- بالذات- تحقيقه عن طريق الفوز في الانتخابات التشريعية بما يضمن له برلمانا يوافق على تعديل الدستور لزيادة صلاحياته وتأكيد أن النظام هو رئاسى بامتياز) وفى هذا الإطار أطاح أردوغان بنصوص الدستور والقانون التي تمنعه كرئيس من العمل الحزبى، وراح يقود الحملات الانتخابية بنفسه لدعم حزب الحرية والعدالة، ومن جانب آخر زادت النبرة الدينية في تحركات أردوغان لحسم المنافسة الحزبية، فمن جهة ردد: (لن نفسح المجال لأولئك الذين يعترضون على الأذان)، كما وصف كوادر حزب الشعب الجمهورى (من معارضى الرئيس) بأنهم علمانيون وغير متدينين ومن أتباع زرادشت، أما القوميون والأكراد المتدينون فقد وصف أهم زعمائهم (صلاح الدين ديمرطاش) الذي كان منافسا له في انتخابات الرئاسة الماضية ورئيس حزب الشعب الديمقراطى الكردى، بأنه (يأكل لحم الخنزير).
ويترافق هذا الجنون (العثمانلي) مع إقامة أردوغان قصرا أسطوريا للحكم اسمه (أرك سراي) وابتداعه تقليدا لتغيير الحرس الذي يرتدى ملابس الجيش في عصور السلطنة العثمانية المختلفة، إضافة إلى العملية التي سببت اضطرابات الشباب في ميدان تقسيم، وفيها أراد أردوغان إزالة (جيزى بارك) لإعادة بناء قلعة عثمانية كان أتاتورك هدمها، كرمز لإحياء العثمانية.
ليس ذلك فقط وإنما كانت الأهمية الإعلامية المغرقة التي أعطاها أردوغان لقبر سليمان شاه تعطى فكرة عن تلك الأهمية التي يعطيها لإحياء العثمانية، إذ إن سليمان شاه هو جد عثمان باشا مؤسس الدولة العثمانية عام ١٢٩٩ ويعتبر ضريحه أرضا تركية داخل سوريا طبقا لاتفاق وقعته أنقرة مع فرنسا عام ١٩٢٠، ومؤخرا قام أردوغان بعملية عسكرية كبرى لنقل الضريح إلى قطعة أرض أخرى داخل سوريا أيضا!!
وفى سبيل تأكيد تلك النزعة العثمانية راح أردوغان يمارس استبدادا كاسحا، ويضرب خصومه السياسيين، ويقبض عليهم دون إذن، ويراقب وسائط التعبير الإلكترونية ويطارد الصحفيين والإعلاميين، ووصل به الأمر إلى مطاردة فتاة صغيرة كانت ملكة جمال تركيا هي مروة بوبو كسراتش، لمجرد أنها سخرت من فساده في قصيدة أسمتها (الأسطي)
استلهاما من التسمية التي يطلقها عليه أنصاره وهى (الأسطى الكبير).
■ ■ ■
ومما سبق على المحورين الداخلى والخارجى، يمكن فهم التحرك التركى الهوسى إزاء فكرة إسقاط النظام السورى، دعمها لكل من داعش وجبهة النصرة (تدريبا وتسليحا) فضلا عن تجهيزها ٢٢٠٠ مقاتل اتفقت مع واشنطن عليهم ليمثلوا طليعة إسقاط النظام السورى.
أنقرة ـ أردوغان تتجهز الآن لإحياء العثمانية، ولكن من على الأراضى السورية، بدلًا من الالتحام بالصيغة الإخوانية في مصر والتي سقطت على نحو ذريع.
هي محاولة أخيرة وجنونية لرجل يريد أن يصبح إمبراطورا، وفى طريقه إلى تحقيق ذلك الحلم (له) والكابوس (لنا) راح يسمى شركات المواصلات باسمه ويكتبه على الباصات، والجامعات كما سمى نوعا من الزهور وآخر من السمك باسم (رجب)!!