ظلت الفكرة القائلة "إن اليهود في مصر كانوا من أغنى أغنياء البلد وليس من بينهم فقير" تروج للعديد من السنين بل ما زال يروج لها حتى الآن ليكون الغرض الرئيسي من ورائها أن يقتنع الجميع أن اليهود كانت لهم مصالح شخصية وخاصة مع إسرائيل لذا قام من تواجدوا في مصر آن ذاك بمحاولات عديدة لاحتلال البلاد اقتصاديا ولم تصلنا أي صورة عن طبيعة اليهود في مصر والتي كانت لا تختلف عن باقى المجتمع الذي كان يتكون من فقراء ومتوسطى الدخل واغنياء، فحارة اليهود ما زالت شاهدا على أن هناك يهودا كانوا فقراء مثلهم مثل أي مصرى في ذاك الوقت ولعل ما ذكره كتاب جاك حسون "تاريخ يهود النيل" والذي قام بترجمته محامى العمال في مصر يوسف درويش المصري اليهودى دليل موثق على وجود فقراء يهود كثيرين ولعل أبرز ما جاء في الكتاب كان رصد لحياة الباعة الجائلين اليهود الذين كانوا يتنقلون بين القرى المختلفة والبعيدة لبيع بضاعتهم وأكد أن اليهودي الذي كان يرغب في أن يصلى في بلد ليس بها معبد كان يؤدى صلاته في الجامع دون أي اعتراض من قبل المسلمين.
كما ذكرت مصادر وكتب عديدة على وجود بيوت "الأوديش" وهى مجمع سكنى للفقراء كانت في حارة اليهود تحمل العائلات اليهودية الفقيرة حيث كان الدور الواحد يحمل غرفا كثيرة، كل غرفة تسكن عائلة، وعلى خلفية ما تحدثنا عنه كانت هناك الكثير من الأسئلة التي تندرج تحت "كيف كان اليهود عموما أغنيائهم وفقرائهم يعيشون في مصر قبل الخروج الثانى؟" للإجابة على هذا السؤال بدأنا في البحث حول احتفالات المصريين اليهود بأعيادهم الرسمية وباعتبار الدين اليهودي ديانة سماوية يعترف بها في البلاد كان من المفترض أن تعامل احتفالاتهم كما تعامل احتفالات المسلمين والمسيحيين، وهو بالفعل ما وجدناه ظاهرا في أيام العائلة الملكية، حيث كانت تتم تهنئتهم بأعيادهم تهنئة رسمية من الدولة ،تماما كما يتم مع المسلمين والمسيحيين، كما أن هناك صورة نادرة استطعنا الحصول عليها يظهر فيها الرئيس السابق محمد نجيب وهو أول رئيس لمصر بعد زوال حقبة العصر الملكى، وهو يهنئ الأخوة اليهود بالعام العبرى الجديد، وكان يعتبرهم جزءًا لا يتجزأ من النسيج المصري، كما طمأنهم بأنه لا مساس بهم ولا علاقة لهم بما يحدث في إسرائيل، كما قام بشكرهم على استضافته وأعرب عن سعادته بمباركتهم له منهيا خطابة قائلا: "والذي أحب أن أؤكده أن جميع أبناء مصر، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، إنما هم جميعًا إخوة في الوطن، لا فارق بين يهودي ومسلم ومسيحي، فالدين لله والوطن للجميع، وليحيا الاتحاد والنظام والعمل" كان ذلك تحديدا في عام 1952 وقد دون هذه الكلمات بخط يده في في دفتر التشريفات الخاص بالمعبد، وللعلم، فإن الطائفة اليهودية كانت تسمى بالطائفة الإسرائيلية نسبة إلى سيدنا يعقوب الذي لقب بـ "إسرائيل" ولكن بعد قيام دولة إسرائيل بدأ اليهود في تغير مسمى الطائفه الإسرائيلية إلى الطائفة اليهودية.
تلك كانت الإجابة الأولى على سؤالنا الرئيسي وهو " كيف كان يعيش اليهود في مصر؟"، فيما جاءت الإجابة الثانية من خلال أحد الصور التي التقطت من داخل محطة سراي القبة لثلاثة أشخاص هم "في المنتصف فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف، مفتى الديار المصرية آن ذاك، وعن يمينه غبطة الأنبا يوساب بطريرك الكرازه المرقصية، وعن يساره ناحوم أفندى الحاخام الأكبر لليهود، جاء ذلك في عام 1946 حيث كانوا في استقبال الملك البلاد وقتها الملك فاروق الأول.
اما الإجابة الثالثة كانت من خلال ما محاه التاريخ عن تضامن المصريين اليهود في الثورات المصرية باعتبارهم مواطنين مصريين يدافعون عن الأرض التي يعيشون فيها، فما وجدناه عن تضامن اليهود مثلا في ثورة عرابى يختلف تماما عن ما نعرفه نحن الآن عن عدم مشاركتهم كما وجدنا أيضا مشاركات لهم في ثورة 1919 حيث كانوا يرفعون الهلال والصليب ونجمة داود معا جنبا إلى جنب أثناء تظاهرهم في الشوارع، كما أن سكرتير سعد باشا زغلول كان يهوديا، وهو ليون كاسترو، والذي دار عليه لغط كبير بأنه مؤسس المنظمه الصهيونية في مصر، وكيف لسعد زغلول أن يعينه سكرتيرا خاصا له، فلمن لا يعرف أن مصر كانت بها نشاطات صهيونية تحت مباركة الحكومة المصرية حيث كان لا مانع مع الدولة في أي نشاطات صهيونية تمارس قبل 1948، كما أن التاريخ يذكر الاستقبال الرسمى الذي تم لتيودور هرتزل مؤسس الأيدلوجية الصهيونية في البلاد عام .1904
كما أن الخطوة الأولى للحركة الصهيونية في مصر كانت في نهاية القرن 18 تحديدا عام 1897 حينما قام جوزيف ماركو باروخ بتأسيس أول جمعية صهيونية من مجموعة اليهود "الأشكيناز" القادمين من أوروبا، أطلق عليها جمعية باركوخيا الصهيونية.
ونشطت تلك الجمعية في الدعوة للحركة الصهيونية وامتدت فروعها إلى الإسكندرية وبورسعيد وطنطا والمنصورة دون أي اعتراض من الحكومة المصرية وقتها بل توالت بعدها إنشاء الجمعيات الصهيونية خصوصا بعد زيارة تيودور هرتزل لمصر 1904، والتي تأسيت بعدها جمعية " بن صهيون " وهى من اخطر الجمعيات الصهيونية التي تم تأسيسها في الإسكندرية 1908 كما أعلنت تبنيها لبرنامج المؤتمر الصهيونى الذي عقد في بازل بسويسرا 1897 والذي تقرر فيه تأسيس إسرائيل، وفى عام 1917 وصل عدد الجمعيات الصهيونية إلى 14 جمعية.
وفى النهاية نجحت كل تلك المنظمات بالفعل في إقناع المصريين بأنه لا فرق بين إنتمائهم للوطن والحركة الصهيونية، كما يذكر الجميع ما حدث عند زيارة " حاييم وايزمان " مصر على رأس بعثة صهيونية كانت مسافرة إلى فلسطين 1918 حيث تم استقباله إستقبال حافل ورسمي من قبل أعضاء المنظمة الصهيونية في مصر كما استقبله أيضا شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوى وقتها وتبرع بـ100 جنيه مصرى للمنظمة الصهيونية أن ذاك.
وأخيرا كانت منظمة جاك موصيري أحد أكبر العائلات اليهودية الذي دعى للفكر الصهيونى ودفع ثمنه عائلات يهودية مصرية أخرى كما ذكرنا في الحلقة السابقه والذي قام بتأسيسها عام 1917 وأصدر وقتها جريدة إسرائيل لتعبر عنه باللغات العربية والعبرية والإنجليزية، كل ما ذكرناه حدث بمباركة من الحكومة المصرية التي لمن تستشعر خطورة هذا الفكر وتلك المنظمات سوي بعد فوات الأوان رغم قيام الكثير من شباب اليهود أن ذاك بمناهضة الفكر الصهيونى الذي تم حظر جميع نشاطاته في نهاية الأربعينيات بعدما ظهرت النكبة في فلسطين وبدأ الجميع يشعر بأن الفكر الصهيونى خطر على الأمة.
هنا استوقفنا لحظات الحديث عن الفكر الصهيونى وعلاقة اليهود به حيث وصلنا من التاريخ الفضيحه الشهيرة التي لقبة بفضيحة "لافون" والكثير من النشاطات الإجرامية لمنظمات الصهاينة في مصر ولم يصلنا أي شيء عن الحملة الكبيرة التي قامت لمناهضة الصهيونية وشارك فيها اليهود المصريون آن ذاك وكان من أبرزهم قطاوى باشا كما أن للشيوعين المصريين اليهود دور هام، حيث شكلوا جماعة مناهضة للصهيونية، كان من أبرز أعضائها يوسف درويش، وشحاتة هارون، وريمون دويك وغيرهم.
وكان الرفض الشعبى للحركة الصهيونية في مصر هو الذي أدى بالحكومة المصرية وقتها إلى حظر النشاط الصهيونى عقب النكبة كما أصدر الطلبة اليهود خلال "يوم الشهداء" 3 مارس 1946 رفضوا فيه جميع المنظمات الصهيونية وأكدوا في الوقت ذاته وجود الطلاب اليهود في معركة الشعب المصرى على اختلاف عقائده ودياناته، وقع البيان طالب الطب فرج نسيم وطالب الآداب ليون كراومر وطالب الهندسة روبير شاؤول يوسف والذي كان نصه " تحت خرافة الوطن المقدس وأرض الآباء والأجداد غررت الصهيونية بملايين العمال والفلاحين اليهود، بهذه النداءات المعسولة، وصورت الصهيونية أن اليهود سيضطهدون، ولن تنقذهم غير أرض الميعاد كما يدعون وليس هذا التضليل إلا تنفيذًا لخطة الاستعمار المدبرة، ها نحن المثقفين اليهود، تبينا لعبته وأدركنا خطره وخطر الصهيونية، لن نسمح بأن تفرق صفوفنا نحن المصريين، ولنكن يدًا واحدة مسلمين ومسيحيين ويهودًا، يدًا قوية تدك صرح الاستعمار، نكافح مع المناضلين العرب للتحرر من الاستعمار وذنبه الصهيونية، حتى تسقط الصهيونية وتبقى فلسطين حرة، ها نحن اليهود المصريين ننزل إلى الميدان مع زملائنا العمال والطلبة لنعلن احتجاجنا وسخطنا على الاستعمار والصهيونية، عاشت مصر حرة.. عاشت فلسطين حرة ".
فلم يكن غريبا وقتها أن يكون سكرتير سعد زغلول يهوديا صاحب أحد الجمعيات الصهيونية التي لم تكن تمنعها الحكومة آن ذاك، ناهيك عما وجدته في الصور الأرشيفية عن رخص القياده التي كانت لأشخاص من الطائفه الإسرائيلية والمستشفى الإسرائيلية الخاصة بهم والتي تم تحويلها فيما بعد، وطلبات من داخل وزارة الداخلية وهى كلها تنص على شيء واحد: "اليهودى هو مواطن مصرى لا خلل في ذلك"، كما وجدنا العديد من الصور التي تشكل حياتهم اليومية التي كان من الصعب أن تميزهم عن غيرهم فاليهودى ليس له شكل خاص كما صورته لنا السينما المصرية عقب ثورة 52 وهو ما سنتحدث عنه في الحلقه القادمة مع المخرج أمير رمسيس تلميذ يوسف شاهين، وصاحب فيلم "عن يهود مصر" كما سيكون لنا لقاء مع ماجدة هارون رئيسة الطائفة اليهوديه الحالية.
الخروج الثاني (4)