الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

الإمام الأكبر عبدالحليم محمود.. المنقذ من الضلال

 الدكتور عبدالحليم
الدكتور عبدالحليم محمود
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعد ذكرى مولد الدكتور عبدالحليم محمود التي تصادف ١٢ مايو من كل عام، عيدا لدى الكثير من المتصوفة ورموز الفكر الوسطى على حد سواء، فالرجل الذي عرف بقوته وورعه ترك الكثير من المجلدات دفاعًا عن الوسطية وحفاظا على التصوف من المبتدعة ومدعى الروحانية، فكانت مجلداته خليطا بين الفكر وإعمال العقل، وبين التصديق والاتباع فيما يخص العقيدة التي تصل إلى حد اليقين بمبدأ الاتباع وعدم الابتداع كونها مكتملة لا نقص فيها. المواقف لا تعرف بالرجال، إنما الرجال هم من يعرفون بالمواقف، هكذا كان شيخ الأزهر السابق وغزالى القرن العشرين الدكتور عبدالحليم محمود، فرغم أن الظروف دائمًا ما كانت تضعه في صدامات ليست كأى صدامات أخرى، إذ إن الطرف المقابل له أعلى سلطة في الدولة «رئيس الجمهورية»، إلا أن ذلك لم يغير من موقفه والثبات عليه، لا يحركه حب الذات أو الرغبة في أن يسطر اسمه داخل كتب التاريخ كأحد المناضلين، فلقد كان هدفه الوحيد، ومحرك الثورة داخله حبه وغيرته على الكيان الذي نسب إليه - الأزهر - حتى لقب بـ«هبة الأزهر».
جعل التصوف جوهر الدين ينقص بفقده
كرامات مولانا.. رأى حروفًا كتبها تتلألأ أمام عينيه نورًا فوق نور
عرف عن الشيخ الراحل الدكتور عبدالحليم محمود تعمقه في الصوفية، حيث أصدر كتابا خاصا باسم «قضية التصوف» ترجمة لكتاب الإمام أبو حامد الغزالى «المنقذ من الضلال» من أهم المراجع التي تناولت قضية التصوف كقضية فكرية لها جوانبها وأبعادها، فيفند الشبهات التي أثيرت وتثار حوله، ويبين حقيقته التي تغيب عن كثيرين، بل تغيب عن كثير من المتصوفة أنفسهم، ويبين حقيقة ما يسمى بالتصوف المسيحى أو اليهودى، وأنه لا صلة له بالتصوف الإسلامى.
فأوضح أن التصوف هو العبودية الحقة الخالصة لله وأنه جهاد في الحياة كما أنه جهاد في ساحة الحرب، وجهاد رموز التصوف على مر التاريخ مثل: شقيق البلخى وحاتم الأصم وأبوالحسن الشاذلى والأمير عبدالقادر الجزائرى، وكانت ألقاب بعضهم دليلا على سعيهم في الدنيا بالعمل والضرب في الأرض لا التواكل الذي يدَّعيه البعض على الصوفية، مثل: القصار والخراز والوراق والحلاج والزجاجى والفراء، ويؤكد أن حقيقة التصوف في الالتزام بالشريعة التزامًا تامًّا، يقول سهل التسترى: أصول طريقنا سبعة: التمسك بالكتاب والاقتداء بالسنة وأكل الحلال وكف الأذى وتجنب المعاصى ولزوم التوبة وأداء الحقوق.
ورجح محمود في كتابه «قضية التصوف.. المنقذ من الضلال» أن نشأة التصوف تعود إلى كلمة الصوف مع احتماله كل المعانى التي ذكرت فيه، وهذا من توفيق اللفظ الذي يبين الكثير من معانى التصوف ومظاهره، مرجحا رأى أبوبكر الكتانى في أن التصوف من الصفاء والمشاهدة، إذ الأول وسيلة والثانى غاية، وأن التصوف نشأ نشأة إسلامية خالصة، وأن اللفظ مستخدم منذ الجاهلية وليس حادثا في الإسلام، بل إنه يتوصل إلى أن التصوف وجد منذ أن وجد الإنسان، شارحا أن أساس التصوف هو حب الله ورسوله والاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم باعتباره الأسوة الحسنة، الذي يلزم لا محالة التأسى بها برجاء الله ورجاء اليوم الآخر وذكر الله كثيرا، ثم بعد ذلك يسلك الإنسان مقامات هذا الباب التي هي منازل روحية يمر بها السالك إلى الله، فيقف فيها فترة من الزمن مجاهدا في إطارها، بخلاف الأحوال التي هي نسمات روحية تهب على السالك، فيبدأ بالتوبة الخالصة لله سبحانه وتعالى أول المقامات اللازمة في أول الطريق تخلية لقلب السالك حتى يتحلى بمنح الله ونفحاته وأنواره أثناء سيره، وأن يقترب من قوله تعالى (قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين)، ثم الورع بأن يجتنب بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام، فيجتنب كل ما فيه شبهة، ثم الزهد، وحقيقته في عدم التعلق بالدنيا وليس في الفقر، بمعنى أن تكون الدنيا في اليد لا في القلب.
وحول مصدر التصوف يقول: إن مصدر التصوف الأصلى هو الذوق والمشاهدة، اللذان يصل الإنسان إليهما عن طريق الخلوة والرياضة والمجاهدة والاشتياق بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى، وليس الثقافة الكسبية أو كتب القوم، فهذه الثقافة والكتب تكمن أهميتها في كونها محفزة للسالك على الاستمرار في الطريق والصبر على السير فيه، وأن النزوع إلى التصوف فطرة واستعداد في الإنسان.
ودافع محمود عن قضية وحدة الوجود التي يؤمن بها الصوفية بأن القضية التي يثيرها معارضو التصوف تفهم على نحو خاطئ، فالذي يعترض عليه معارضو التصوف، لم يقله الصوفية أنفسهم بما فيهم ابن عربى والحلاج، فهم يسمونه وحدة الموجود، أما الآخرون فيخلطون بينهما، فالموجود متعدد سماء وأرض وجبال وأناس، أما الوجود الواحد فلا شك فيه، هو وجود الله المستغنى بذاته عن غيره، الذي منح الوجود لكل كائن وليس لكائن غيره، وأن الخلط جاء من أن فريقًا من الفلاسفة مثل: هيراقليطس وشلى قال بوحدة الموجود.
وأوجد شيخ الأزهر الراحل للتصوف أصلا في الإسلام، حيث يستشهد بقول الشيخ عبدالواحد يحيى «رينيه جينو»: «الصوفية ليست شيئا أضيف إلى الدين الإسلامى، إنها ليست شيئا أتى من الخارج فألصق بالإسلام، وإنما هي، بالعكس تكون جزءا جوهريا من الدين، إذ أن الدين بدونها يكون ناقصا، بل يكون ناقصا من جهته السامية، أعنى جهة المركز الأساسى، لذلك كانت فروضًا رخيصة تلك التي تذهب بالصوفية إلى أصل أجنبى: يونانى أو هندى أو فارسى».
ويضيف: إن كل من لم ينطلق من الشريعة الصادقة والاتباع الدقيق فإنه لا يصل إلى شيء من درجات الصوفية، إن الصوفية لا تتأتى إلا بالاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم، مستطردا لا يوجد تصوف إلا في المحيط الإسلامى، وأن التصوف المسيحى أو اليهودى لا يمت للتصوف الإسلامى بصلة، فالتصوف الإسلامى هدفه المعرفة، بخلاف التصوف المسيحى الذي هدفه الحب، ثم إن المسيحى الذي اتخذ الميستيسيزم الذي يطلق عليه التصوف المسيحى سبيلا في الحياة ينهج في سلوكه منهجا سلبيا، إنه يقتصر على تلقى ما يأتيه دون أن يكون له أثر شخصى، ومن أجل هذا لم يكن في المسيحية طرق صوفية، ولذلك لا يتخذ المسيحى «شيخا»، وليس عنده فكرة عن السلسلة أو الإسناد، الذي بواسطته يصل إليه التأثير الروحى، الذي لا بد منه في التصوف.
شأنه شأن المتصوفة لم يفت الشيخ عبدالحليم محمود فرصة التحدث عن كرامته كأحد المتصوفة في العصر الحديث، حيث يقول عن نفسه أثناء ترجمته لأبى الحسن الشاذلى: أنا في غير كبرياء ولا فخر، من الذين لا تلعب بهم الأوهام ولا التخيلات، ولم أكن في يوم من الأيام فريسة أباطيل وخرافات، وقد باعد الله تعالى - وله الفضل والمنة - بينى وبين التأثر بالإيحاء والوهم.
ومن ضمن الكرامات التي تحدث عنها محمود الابتلاء الذي تعرض له حيث يقول: في فترة من الفترات ابتلانى الله بموضوع شقَ على نفسى، وعلى نفس المحيطين بى، واستمر الابتلاء فترة كنا نلجأ فيها إلى الله، طالبين الفرج، وذات يوم أتى عندى بعض الصالحين، وكان على علم بهذا الابتلاء، وأعطانى ورقة كتبت فيها صيغة من صيغ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اقرأها، واستغرق فيها وكررها منفردا بالليل؛ لعل الله يجعلها سببا في تفريج هذا البلاء؛ فاعتكفت في غرفة بعد صلاة العشاء، وأضأت نور الغرفة، وأمسكت الورقة بيدى وأخذت في تكرار الصيغة، واستغرقت فيها وإذ بى أرى فجأة أن الحروف التي كتبت بها الصيغة مضيئة تتلألأ نورا، ومع أن الغرفة كانت مضيئة فإن الحروف كانت تتلألأ نورا وسط هذا النور، ولم أصدق عينى، فوضعت الورقة أمامى، ووضعت يدى على عينى أدلكهما وأدعكهما، ثم فتحت عينى، فإذا بالحروف على ما هي عليه، تتلألأ نورا، وتشع سناء، فحمدت الله وعلمت أن أبواب الرحمة قد فتحت وأن هذا النور رمز لذلك، وفعلا أزال الله الكرب، وحقق الفرج بكرامة هذه الصيغة المباركة.
عمر هاشم: رأى «رسول الله» يعبر مع جيشنا فبشّر «السادات» بنصر أكتوبر
يعد الدكتور عبدالحليم محمود من العلماء الذين قلما يتفق عليهم علماء السنة والشيعة، فوصف بالعالم الورع، والإمام التقى الذي لا يعرف للحق سوى طريق واحد، واسع الأفق زاهد، متصوف يعى حقيقة التصوف.
حيث يقول عنه الدكتور محمد عبدالرحمن بيصار، شيخ الأزهر الأسبق، كان سريع التحرك بوجدانه إلى ما ينبغى أن يكون عندما يطرأ أمر أو تقع حادثة من أحداث الحياة، وكانت حركته بوجدان صاف وفكر مدرك وصفاء نفس عميق، وما ذكرت يوما أنه غضب عندما غضبت، أو انفعل عندما خالفه أحد في الرأى.
ويضيف: كان يبدد الغضب ويصرف الانفعال بابتسامة رقيقة ترتسم على شفتيه، معبرة عن معنى دقيق من الأخوة والصفاء، وراءها فيض جارف من العواطف الأخوية، والعبارات الشفافة الملطفة، التي تبدد كل غيم وتوضح كل لبس.
من جانبه يقول الدكتور أحمد عمر هاشم عضو مجمع البحوث الإسلامية إن الإمام كان يرفض أن يضام أحد رموز الأزهر أمامه وأن تهان شريعة الله في أرضه وهو موجود على ظهر الأرض، موضحا أن الشيخ كان متصوفا حق التصوف الذي يؤدى إلى الآخرة ولا يبتغى بتصوفه الدنيا وزخرفها.
ويروى عضو مجمع البحوث عنه رؤية نصر أكتوبر التي رآها الإمام الأكبر حيث يقول: «كان الإمام عبدالحليم محمود رحمه الله تعالى قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يعبر ومعه علماء المسلمين وقواتنا المسلحة، فاستبشر الإمام عبدالحليم محمود رحمه الله خيرا واستبشر بالنصر وأخبر الرئيس السادات رحمه الله، واقترح عليه أن يأخذ قرار الحرب وسينتصر، لأنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يعبر ومعه قواتنا وعلماؤنا، فكانت بحق بشارة النصر لهذا اليوم العظيم».
ويتابع انطلق هذا الامام الجليل إلى منبر الأزهر الشريف، وهو المنبر الذي كان يلجأ إليه الأئمة في كل ملمة، وخطب المسلمين من فوق منبر الأزهر، ونادي جميع الملوك وجميع الرؤساء وأوضح أن هذه حرب في سبيل الله وأن الذي يموت فيها شهيد في سبيل الله وله الجنة، وأن الذي يتخلف عنها مات على شعبة من شعب النفاق.
بينما وصفه عميد أصول الدين الحالى الدكتور بكر زكى عوض قائلًا: هو هبة الأزهر الشريف، والذي جعل من الأزهر مكانة عالمية يفخر بها كل أزهرى إلى اليوم، متابعًا أشعر بخجل شديد حينما أقف أمام كرسى العميد الذي كان يجلس عليه الإمام الراحل، فلا يمكن لأحد أن يضاهى علمه وقوته في الحق، الأمر الذي جعله يتصدى للجميع نصرة لدين الله وحفاظا على الأزهر من أن يجور عليه أحد كائنا من كان.
احتفظ لشيخ الأزهر بصلاحياته
الإمام الأكبر ضد الرئيس المؤمن
استحدث إدارة القرآن الكريم.. وتوسع في إنشاء المعاهد الأزهرية
لعل المواقف التي عاصرها شيخ الأزهر الراحل الدكتور عبدالحليم محمود حينما تولى المنصب عام ١٩٧٤ أثناء حكم الرئيس الأسبق محمد أنور السادات جعلت منه العصر الذهبى للمشيخة، حيث تصدى لمحاولات الرئيس الراحل في أن تسحب بعض صلاحيات شيخ الأزهر إلى وزير الأوقاف، كما كان له دور في أن يتوسع الأزهر في رسالته العالمية لحفظ القرآن.
حيث أصدر الرئيس الأسبق قانون الأزهر عام ١٩٧٤، والذي سعى من خلاله إلى تمكين التعليم المدنى ومعاهده العليا على حساب المعاهد الأزهرية، وألغى جماعة كبار العلماء، مقلصا سلطات شيخ الأزهر، وغل يده في إدارة شئونه، وأعطاها لوزير الأوقاف وشئون الأزهر، الأمر الذي جعله يهدد بالاستقالة من منصبه ليضع الرئيس الراحل في حرج كبير دفعه إلى العدول عن قراره وإعطاء شيخ الأزهر كل الصلاحيات المتعلقة بالتعليم الأزهرى وإدارة المشيخة وملحقاتها، وجعل درجته بدرجة رئيس وزراء، ووعد بتطبيق الشريعة، فعهد لصوفى أبو طالب رئيس مجلس الشعب وقتها بدراسة مسألة تطبيق الشريعة.
كما كان له دور بارز في إنشاء العديد من المعاهد الأزهرية والمساجد والجمعيات، وفتح أبوابه على مصراعيها لطلاب العلم من شتى أنحاء العالم، فأعاد للأزهر دوره الريادى كمنارة للتربية والتعليم في العالم الإسلامى، واستحدث بالأزهر إدارة القرآن الكريم، وسعى لدعمها ونشرها في جميع أنحاء مصر والعالم الإسلامى.
يقول أحد أحفاده الدكتور أحمد الحسينى: «ومن الصفات التي أذكرها عن الشيخ عبدالحليم محمود حزمه في الحق مع الجميع حتى مع رئيس الوزراء نفسه، والحقيقة أن شخصيته كانت لها رهبة وهيبة حتى مع المسئولين بالدولة، فقد قدم استقالته أكثر من مرة احتجاجا على تصرفات معينة، فقد طالب مثلا بألا يكون هناك رئيس على شيخ الأزهر، وكانت هناك وزارة تسمى وزارة شئون الأزهر ترأس شيخ الأزهر، ولكنه ألغى الوزارة كلها، وسافر إلى الإسكندرية وأقام فيها احتجاجا على وجود هذه الوزارة، حتى إن أحد كبار المسئولين بالدولة سافر إليه ليقنعه بأن يعدل عن الاستقالة ولكنه كان يرفض مقابلته من منطلق حرصه على استقلالية الأزهر.
ويكفى أن أذّكر بهيبة ومكانة الأزهر في عهده رحمه الله، فقد كان الأزهر منارة للعلم، وتوسع في بناء المعاهد الدينية، وكان يشترط أن من يلتحق بالأزهر لا بد أن يحفظ القرآن كاملا، أما الآن فيمكن أن يتخرج طالب في الأزهر دون أن يحفظ عشرة أجزاء، كما حرص على إرسال بعثات خارجية للنهوض بالتعليم الأزهرى.
ومن بين وصايا الشيخ التي ظل يطالب بها حتى آخر لحظة في حياته الاستمرار في فتح المعاهد الأزهرية، والاستمرار في المطالبة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وكان آخر ما قرره قبل دخوله المستشفى تعميم معاهد القراءات في جميع محافظات الجمهورية باعتبارها تخدم القرآن وتمد حاجة مصر والعالم الإسلامى من القراء، وكان مهتما في آخر أيامه بمشروع الدستور الإسلامى.
أبو التصوف.. من الشك إلى اليقين
يبدو أن الشيخ الراحل كان متأثرا كثيرا بما قرأه عن إعلام التصوف، خاصة حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالى، وهو الأمر الذي دفعه إلى التبحر في كتابه «المنقذ من الضلال»، وبناء كثير من الآراء في الرد على المهاجمين للتصوف من خلال الأسلوب الفلسفى المرتكز على أسس من المنطقية، حتى وصف بأنه «غزالى القرن العشرين»، بعد أن اختبر الطرق الكلامية والنصية فلم يجد الطريق الصحيح إلا في العبودية والاتباع‏.‏
فدرس «محمود» مذهب النصيين ودرس علاقة اليقين بالعقل، ودرس المذاهب العقلية سواء في الجو الإسلامى أو الغربى، وبين هذه الدراسات جميعا مع دراسة الفلسفة وعلم النفس والاجتماع، ليخلص إلى حقيقة واحدة بأن جوهر الإسلام الصحيح يكمن في إخلاص العبودية واتباع نهج السلف، ويقول في ذلك‏: ‏وانتهيت من دراسة الدكتوراه وأنا أشعر شعورا واضحا بمنهج المسلم في الحياة وهو منهج الاتباع‏، مقويا حجته في انتهاج هذا المنهج من خلال الاستشهاد بمقولة ابن مسعود رضى الله عنه يقول عن هذا المنهج كلمة موجزة كأنها إعجاز من الإعجاز‏:‏ اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم‏.‏
ليخلص من هذا إلى القول «لقد كفينا وعلينا إذن الاتباع وبعد أن وقن هذا المنهج في شعورى واستيقنته نفسى أخذت أدعو اليه‏:‏ كاتبا ومحاضرا ومدرسا، ثم أخرجت فيه كتابا خاصا هو الإسلام والعقل وكل ما كتبته عن التصوف والشخصيات الصوفية فإنما يسير في فلك هذا المنهج منهج الاتباع‏.‏
كما يعرف شيخ الأزهر بين المتصوفين بـ«أبى التصوف»، و«أبى العارفين»، في العصور الحديثة وهو عندهم رائد مدرسة الفكر الإسلامى والتصوف في العصر الحديث، فالتصوف عنده صفاء ملائكى يتطلب سلوك طريقا من الإيمان والإخلاص والصفا والبحث عن الدرجات العليا في التقرب إلى الله، حيث يقول عنه: نظام الصفوة المختارة، إنه نظام هؤلاء الذين وهبهم الله حسا مرهفا، وذكاء حادا، وفطرة روحانية، وصفاء يكاد يقرب من صفاء الملائكة، وطبيعة تكاد تكون مخلوقة من نور.
رجل المواقف الصلبة
كان للإمام الأكبر موقف أكثر صلابة وشجاعة في التعامل مع الأزمات السياسية بمنطق الحكمة والقدرة، ولعل في مقدمتها مناداته بعودة الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية بعد سقوط الاحتلال الإنجليزى الذي أسقطها ليحل بديلا عنها أحكام مدنية تُخالف الشرع، خاصة في جميع الأحكام والمواد الجنائية والمدنية والدستورية والدولية، وأخذ على رئيس مجلس الشعب الأسبق الدكتور صوفى أبو طالب عهدًا بأن يسعى إلى تحقيق ذلك.
كما كان له رأى في الأحكام التي صدرت في قضايا التكفير والهجرة، حيث أعلن امتناعه وامتناع علماء الأزهر عن تلبية هوى المحكمة في شأن المتهمين ليكون قرار المحكمة بعيدا عن الحجة الشرعية، ما دفع القاضى لانتقاد شيخ الأزهر قائلًا: «أسفًا على إسلام ينزوى فيه رجال الدين في كل ركن، هاربين متهربين من أداء رسالتهم، أو الإفصاح عن رأيهم، أو إبداء حكم الدين فيما يعرض عليهم من أمور، فلا هم أدوا رسالتهم وأعلنوا كلمة الحق، ولا هم تركوا أماكنهم لمن يقدر على أداء الرسالة».
ويحسب للإمام الأكبر مواقفه من القوانين التي أصدرتها جيهان السادات قرينة الرئيس الراحل أنور السادات فيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية، متهمًا من أصدرها ووافق عليها بالزور والبهتان، رافضًا الاقتراح الخاص بإعداد كتب مشتركة بين الإسلام والمسيحية، وأصدر نداء يُحذر فيه من خطورة كتابة اللغة العربية بأحرف لاتينية.
كما رفض بدوره اقتراح البابا شنودة بطريرك الأقباط في مصر تأليف كتب دينية مشتركة ليدرسها الطلبة المسلمون والمسيحيون جميعا في المدارس، مبررا.