«الشعب» منعها «نظام عبدالناصر» وتصف المصريين بـ«الجبابرة» «الناياتى» اختفت وسرها عند يحيى العلمى
أغاني المسلسل "الفلاح" ٢٤ أغنية لا نعرف منها سوى "المقدمة والنهاية"
"الخال" يتذكر "حمام"
فيما كان عبدالرحمن الأبنودى يمشى مختالا بطوله الفارع في أحد شوارع قرية فقيرة بالأقصر.. كان رفيق دربه الروائى الكبير جمال الغيطانى يحاول أن يلاحقه.. خطوة الخال السريعة باتجاه منزل أحد أصدقاء الطفولة كانت تنافس الحر الصعيدى الذي لم يعد الغيطانى يتحمله.. فجأة استوقفتهما امرأة صعيدية وكأنها وجدت أخًا ضاع منها من سنوات.. ببساطة سألت مش انت ولد الأبنودى اللى بيقول:
«غربى بلدنا.. بلد سيح
وآدى الهلف ماشى ورانا
مش عيب كراسى التماسيح
تركب عليها.. الورانة
استغرب الغيطانى الموقف برمته.. لكن الخال لم يندهش.. وسامرها.. بمودة.. ثم مضى إلى غايته.. وظل الأبنودى يحكى القصة لكثيرين دليلا على أنه «بتاع الناس».. وأن إنجازه الأكبر سيظل في هؤلاء الذين لا تربطه بهم مصلحة.. يحبونه لأنه «الشاعر» الذي يقول لهم.. يعبر عنهم.. في كل أحوالهم.
هذا الشغف الدائم بالناس هو الذي صنع أسطورة الخال.. وسيظل حافظًا لتراثه.. فمئات الأشخاص من نوعية تلك السيدة يحفظون للأبنودى أغنياته وأشعاره التي نسى الكثير منها في أيامه الأخيرة، لكن يبدو أنه كان واثقا فيهم وفى حفظهم لسيرته وكنزه الثمين.
من الغيطان للصفحات الأولى
بهذا الوعى نقل الأبنودى صورة «الشعب» من الغيطان والمصانع والقهاوى إلى مقدمة الصورة إلى الصفحات الأولى في «جرانين عبدالناصر»، خرجت وهيبة بمقطف الفاكهة من جناين برقاش إلى الراديو عبر حنجرة محمد رشدى.. وكذلك فعلت «عدوية» تلك الخادمة البسيطة في منزل الموسيقار عبدالعظيم عبدالحق.. لم تصبح مجرد خادمة لكنها صارت حبيبة.. أنثى يتمعشق فيها شبان تلك الأيام.. وكذلك نجاة التي قال إنها من بلدياته «مش عارفانى إزاى يا نجاة.. وإحنا يا حبيبتى بلديات»، وعند «عدوية» نتوقف قليلًا لنؤكد أنها حسب الموسيقار صلاح عرام باعت نصف مليون أسطوانة عند طباعتها للمرة الأولى عبر شركة «صوت القاهرة».. وظل عرام يلوم بليغ حمدى حتى مماته لأنه حرمهما هو ورشدى من أن يصبحا أصحاب شركة مهمة.
الحكاية وحسب صلاح عرام تعود إلى عام ١٩٦٤ عندما قرر بليغ في إحدى نوبات جنونه أن ينشئ شركة إنتاج خاصة به.. يكون ثلاثتهم رشدى وبليغ وعرام أصحابها.. رشدى بصوته.. وبليغ بألحانه.. وعرام بفرقته الموسيقية.. وذهب الأخير بالفعل واستأجر استديو شركة صوت القاهرة، التي كانت قد استولت عليها حكومة الثورة من صاحبها محمد فوزى، ولكن تركت أحد أفراد أسرته لإدارته.. وكان أن ذهب بليغ لتسجيل الأغنية فحدث وأن سمعها قريب فوزى فطلب من مسئولى الشركة شراءها بأى ثمن.. كان سعر أجعص أغنية وقتها ٢٠ جنيها.. إلا أن بليغ حصل على ألف جنيه كاملة نظير التنازل عن «عدوية»، حصل صلاح عرام على مائة جنيه منها ومائتين لرشدى والباقى لبليغ الذي دفع أجر الأبنودى.
ما قصدته من حكى هذه القصة أن الأبنودى في ذلك الوقت... وصل إلى مساحة كبيرة من الانتشار من خلال هؤلاء الناس البساط وتلك النماذج التي لم يكن معتادًا أن نسمع عنها أولها في الغناء المصرى.
في تلك الفترة - عام ١٩٩٤ تحديدًا - كانت أفكار برتولد بريشت عن إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر الشعب تسيطر على «الفتى عبدالرحمن الأبنودى» وعلى معظم رفاق جيله.. الكتابة عن «العاديين الذين ينتجون ويضعون كل شىء.. الناس التي تعيش كل يوم وتمر في حياتنا دون أن يعرفها أحد».. انتهى الاقتباس من كتاب «أيام لم تكن معه» لعطيات الأبنودى، هؤلاء الناس كان نظام عبدالناصر يبحث عنهم فكان من الطبيعى أن تتسيد كتابات الأبنودى حناجر مطربى تلك الفترة.. لكن الغريب أن نفس النظام منع إحدى الأغنيات التي تتكلم عن هذا الشعب.. الأغنية اسمها «الشعب» ولحنها إبراهيم رجب.. وغنتها المجموعة، لكن بعد إذاعتها لمرات قليلة رأى اللهو الخفى أن يخفيها فلم نعد نعرف مصيرها.. شوف الخال بيتكلم عن الشعب إزاى.. وشايفه إزاى.. وبيمثل لأبناء جيله إيه:
أبيض كأنه القمر
أسمر كأنه النيل
أحمر كأنه الدم
أخضر كأنه الحنان
دافئ كأنه البحر
هادى كأنه النسيم
ثابت كأنه الجبل
جبار كأنه الجحيم
نديم كما الفيلسوف
طيب كأنه طفل
خيرِّ كأنه المكنْ
وهاّب كأنه الغيطان
موَّاله طير في الفضا بيغنى
يطوى الهوى بين جناحاته
يطوى الحدود.. إلخ
هذا الوصف العميق للشعب.. ذلك الغزل فيه وفى سماته.. وتلك اللغة الأقرب إلى الشعر يبدو أنها لم تأت على هوى مسئولى الإذاعة.. لكنها لم تجبر الخال على التوقف أو تغيير المسار.. لا هو ترك «اللغة اليمنى التي يكتب بها على حد وصف محمد حسن الشجاعى».. ولا حناجر مطربى الشعب توقفت عن الغناء لهما.. الأبنودى والشعب.
الضلاية ورا الشجراية
الأغانى الشعبية هي التاريخ الحى للبشر.. هكذا قال الكاتب الروسى «جوجول».. والشعوب التي عرفت ذلك استردت وعيها كما يقول ناقدنا الموسيقى الرائع محمد سعيد.. وكل ما اختزنه الأبنودى من غناء شعبى منحته له الطبيعة في أبنود.. أو المولد في قنا.. أو من خلال العمال الذين كان يرافقهم في المصانع.. من خلال «عدودة» الجنائز وليالى الحصاد.. كل ذلك كان سهلا أن يتسرب إلى أغنياته في مسلسل «الفلاح» الذي تضمن ٢٤ أغنية.. لا نعرف منها سوى أغنيتى المقدمة والنهاية، وربما أغنية «والله ليطلع النهار يا خال» التي فوجئ ثوار يناير بمن يكتب نصها ويضعه إلى جوار صورة محمد حمام في ميدان التحرير صباح يوم ٤ فبراير ٢٠١١.
لم يستلهم الأبنودى في أغنيات الفلاح «سيرته» التي عاشها.. ولا معاناته.. لكنه استلهم ألعابه أيضا.. ألعاب أطفال الفلاحين وحولها لأغنية بديعة اسمها «من زمان» غنتها عزيزة عمر.. يبحث فيها الخال عن بطله «الشعبى»، الذي ظل يبحث عنه حتى آخر يوم في عمره.. والذي تصوره وقتها في شخص جمال عبدالناصر، الذي شاهده كما أخبرنى لمرة وحيدة عند زيارة وفد مجلس قيادة الثورة إلى قنا للاطمئنان على أحوال ناسها بعد أن اجتاحها الفيضان..
من زمان بندور عنك من زمان..
من زمان يا أبو ألف عين يا زين الشبان
الفلاح عايز الحقيقة
والحقيقة عايزة طريق
والطريق عايز الأفندى
والأفندى إيش جابه عندى
الأفندية سابونا.. من زمان
أيوه قول دى حقوقنا ضاعت..
من زمان
الفلاح عايز الضلاية
والضلاية ورا الشجراية
والشجراية ملك العمدة
والعمدة لازم يتغدى
بالفلاح..
القصة دى ماشية من زمان
وغلبنا خلاص..
نشكى الزمان.. للزمان..
هذا الفلاح هو نفسه الذي تمثله الأبنودى في صوت حمام..
«فلاح وبزرع سَبل
بيحصدونى الغل
أضحك في وش العدو
يزعل ف وشى الخل
أزرعها من غير ما آكل
تاكلنى دون ما تطل
وكل مازاد حصيدى
لقمتى بتقل»..
لكن المسألة لم تعد مجرد استيلاء على الحصاد.. على الشقا.. على اللقمة.. على الأرض.. مثلما سجلت رائعة عبدالرحمن الشرقاوى وعدسة يوسف شاهين.. وصلت إلى الشرف، كما رصد الأبنودى في أغنية أخرى لعزيزة عمر:
عاجبك يا بابا..
ضيعت عمرك على السرايا
وآدى النهاية..
شرف الولايا..
سبت المعدول
ومشيت ف المايل
لا دول هتطول..
ولا دولك طايل..
تملى تدى وفاكر بتاخد
الدنيا رايحة..
وفاكرها جاية..
وآدى النهاية..
ولم تكن النهاية مريحة حتمًا للخال ولا لأبناء جيله.. كان فيه شىء غلط.. والغلط بدأ من عام ١٩٥٤ حينما قرر بعضهم آن للشعب أن يأكل.. لكن الحرية والديمقراطية والكلام اللى من شىء وكان أن حدثت المقايضة ما بين الخبز والحرية.. فكان من الطبيعى أن يحدث الصدام، وجاءت الوحدة مع سوريا لتفتح بابا آخر لصدام من نوع مختلف ما بين نظام يوليو.. وبعض حلفائه.. ومن بين هؤلاء.. صنايعية.. وفلاحين.. ودكاترة.. كان أحدهم مطربا.. وربما يكون المطرب الوحيد الذي خرج من سجون عبدالناصر.. أو بالأحرى تخرج فيها.
الأسمر الأحمر في جحيم الواحات
اسمه بالكامل.. محمد سيد محمد إبراهيم.. ولد في ٣ نوفمبر عام ١٩٣٥ في حى بولاق لأب يعمل على إحدى البواخر التي كان يجتمع فيها بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة.. غادر القاهرة وعمره خمس سنوات إلى موطنه الأصلى في جزيرة أسوان.. عاش هناك خمس سنوات تقريبا.. أمه كانت تناديه «حمامة» فصار محمد حمام.. حينما ذهب لأهله في أسوان لم يكن يعرف ولا كلمة نوبية.. وبعد أيام كان قد نسى كل مفردات القاهرة وفقط كلام النوبة وأغانيها.. وبعد عودته للقاهرة ذاب في شوارعها.. حتى التحق بكلية الفنون الجميلة.. وفى عام ١٩٥٨ كان قد صار في الفرقة الثالثة.. لكن عددًا من أصدقائه النوبيين كانوا قد أخذوا بيده إلى عالم «الفكر الشيوعى».. ثم صار عضوا في تنظيم وكان رئيسه في الوحدة فيليب جلاب.. وتم اعتقاله لأول مرة لمدة خمسة أشهر حسب شقيقه مصطفى حمام، وأفرج عنه لعدم كفاية الأدلة.. ثم عاد ليتم اعتقاله مرة أخرى في عام ١٩٥٩ ولكن لمدة خمس سنوات هذه المرة، ليرافق ثلاثمائة محب وعاشق لعبدالناصر إضافة إلى الإخوان المسلمين، تنقل في عدد من السجون حتى وصل به المقر إلى جحيم الواحات.. وقبل أن يصل إلى هناك كان قد اكتشف أن له صوتا.. وأنه يكتب الشعر أيضا.
كان السجان في «القلعة» يكافئه بالسجائر لأنه يغنى لعبدالحليم حافظ.. وفى الواحات اكتشفه د. لويس عوض.. وحرضه حسن فؤاد على الغناء بعد واقعة بناء مسرح داخل السجن.. كان هناك ثلاثة من كبار شعراء العامية في مصر.. عمنا فؤاد حداد الذي غنى له «الليلة يا سمرا» التي كتبها عم فؤاد احتفالا بعيد ميلاد زكى مراد.. ولحنها بعد ذلك أحمد منيب.. وأضاف إلى لحنها الذي صنعه حمام في السجن وصدرت في أسطوانة بصوت محمد حمام قبل أن يعود محمد منير ليغنيها بعد سنوات ويعرفها الناس من خلاله.. وأيضا الشاعر محسن الخياط.. ومجدى نجيب الذي التقاه حمام بعد خروجه من السجن صدفة في ميدان طلعت حرب، وقد كان في طريقه إلى مكتب محمد الموجى الذي سمعه لأول مرة وقرر تبنيه.. وقدمه بالفعل في أغنية «يا عم يا جمال» - أغنية من الفولكلور - أضاف مجدى نجيب لها بعض المقاطع وأعاد الموجى صياغتها لحنيا وذلك من خلال برنامج تليفزيونى كان يعده حسن فؤاد اسمه «الفن للحياة».. ثم في حفل أضواء المدينة في السنة نفسها ويومها غنى «حمام» الخجول و«إيده في جيوبه».. «كان يخاف من الكاميرات، رجل لم يؤثر فيه السجن ولم يقبل أن يكتب اعتذارا مثل آخرين ليخرج منه - كان يخاف من الكاميرا».
حكى لى الموسيقار إبراهيم رجب أن المخرج يحيى العلمى قرر أن يقدم لونا تليفزيونيا جديدا اسمه «الفيديو كليب».. يعنى أغنيات تصور للتليفزيون خصيصًا.. وكانت منها أغنية اسمها «الناياتى».. كتبها الأبنودى.. ويوم التسجيل هرب حمام ولم يحضر، فقام المخرج بدهان وجه إبراهيم رجب باللون الأسود حتى يصبح شكله «أسمر» ويقوم بالغناء بلاى باك على صوت حمام الهارب.. وهذا ما حدث ليحتفظ التليفزيون المصرى بأول أغنية فيديو كليب لحمام ولكن بصورة إبراهيم رجب.
ورغم أن الأغنية لا تتحدث عن فصل سياسي.. ورغم أن حمام والأبنودى كليهما كانا قد خرجا من السجن.. إلا أن الأغنية لم تذع إلا مرات قليلة واختفت بعدها..
الكورال: «قول يا شاعر قول..
وما تشبعش قول..
قولنا حكاية بهية
الكورال: لأ.. نعيمة..
الكورال: لأ.. شفيقه
الكورال: لأ يا شاعر.. قولنا
كيف الهلالى فر من سجن الزناتى
قول يا شاعر..
المطرب: الحقيقة مش حكى بهية..
ولا شفيقة.. ولا الهلالى ولا الزناتى
أنا هحكى عن واحد ناياتى»..
ذهب الناياتى إلى حاله.. ولم ينته خجل محمد حمام الذي غادر القاهرة إلى السويس.. وقد كان عاش فيها فترة، فأهلها تقريبا جميعهم من الجنوب.. وذهب الأبنودى إلى هناك أيضا والتحم بفرقة الكابتن غزال «فرقة ولاد الأرض» وصنعوا عددا مهولا من الأغنيات.. وغنى حمام في حفلات المجهود الحربى.. وللجنود على الجبهة.. صار واحدا من أهم مطربى تلك الفترة، لدرجة أن الإذاعة حينما كانت تذيع أغنيات مثل الأم.. ويا بيوت السويس.. كان يتوقف المرور في وسط البلد.. يتذكر حمام:
«بعد صدور الميثاق والقرارات الاشتراكية بدأنا نقترب من السلطة.. وبدأت القيادات الشيوعية تتصل بالحكومة عن طريق لطفى الخولى وإسماعيل صبرى عبدالله ولويس عوض.. وتم حل الحزب.. وفضلت في ذاكرتى أيام المعتقل موش عايزة تروح».
يفتح حمام أبواب الجراح.. يصمت.. ثم يتذكر مجددًا:
«في يوم زميلى كان مريض.. خدته بالليل دورة المياه.. لكن السجان شافنى.. فصرخ.. انت يا مسجون بتمشى في العنبر مع زميلك كأنك ماشى على الكورنيش... طيب بكره هوريكم.
وحدث أن نفذ الصول تهديده.. في الصباح جاء الضابط ليمر على العنابر.. وقفنا طابور كالعادة.. الصول جه عندى وشاور يا فندم دول كانوا بيتمشوا على الكورنيش.. فسأل الضابط مين اللى كان يتمشى امبارح ع الكورنيش.. رفعت إيدى وقلت أنا.. ولم أشعر بعدها بشىء.. غير أنى وجدت نفسى خارج العنبر ما عرفش إزاى.. ورجليا مرفوعة لأعلى والحراس نازلين فيها ضرب... أقولهم أصل الراجل كان.. يقاطعونى.. أصل إيه؟! مافيش كلام.. ويضربونى مرة بالشومة ومرة بالخرزانة.. خدت ييجى ٤٠ ضربة وصاحبى المريض ٢٠ شومة وكان متعلق جنبى.. وجنبنا الاقتصادى المشهور د. عبدالرازق حسن، ومش عارف كانوا بيضربوه ليه.. وفضلت حاطط البطانية في بقى عشان ما أقولش آه»..
لم يستطع حمام أن يقول آه من الألم.. لكنه صرخ بالغناء ولسنوات مع الأبنودى وغيره من شعراء مصر الكبار.
كتب الأبنودى ولحن إبراهيم رجب «يا بيوت السويس.. وجدف يا مراكبى.. يا بلاش يا تداوى جروحى يا بلاش.. وعدودة آه ياليل.. طاب العنب».. وأصدر عزوز تاجر الكاتب الشهير أسطوانة ضمت هذه الأغنيات إلى جانب أغنية أخرى لا يتذكرها أحد.. حتى الأبنودى نفسه.. اسمها «قولوا لعين الشمس ما تحماشى».
سألت الخال عنها في أحد لقاءاتنا في حضور زوجته الإعلامية نهال كمال.. قال إنه لا يتذكرها.. وأضاف: فؤاد حداد كتب غنوة كده.. بس لو سمعت الكلام هافتكر.. واسأل إبراهيم رجب هو يفتكر أكتر.. وهذا ما حدث:
قولوا لعين الشمس ما تحماشى
ألا غزال البر صابح ماشى
لما تقرب هاله
قولولها رشى الفيلة
كل ولاد البلد..
واقفين ولد.. ولد
بيودعوا القمر..
ويمامة طايرة هناك..
محتارة
م الشباك.. م المدن
للشجرة
والورد في البستان
سألنى ع العنوان
وقال لعين الشمس.. ما تحماشى
ألا غزال البر.. صابح ماشى.
نفس الاسم كان لأغنية أخرى كتبها مجدى نجيب على لحن لبليغ حمدى وغنتها شادية قبلها بشهور.. ونجحت جدًا حتى أن مطربة إسرائيلية وضعت صوتها على اللحن بكلمات جديدة تسخر من الجيش المصرى وعودة جنوده مهزومين في حرب ١٩٦٧.
وحكى مجدى نجيب واقعة غريبة:
«كنا راكبين تاكسى أنا وعبدالرحيم منصور، قام حب يداعب السواق.. قاله ده اللى كاتب قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. الراجل قام شاتمنا ونزلنا.. بعد ما قال إنتوا اللى فضحتونا يا ولاد(....)».
كان الرجل يظن أنه صاحب الأغنية الإسرائيلية التي سخرت من جيشنا المهزوم.. لكن من هو غزال البر الذي كتب له الأبنودى؟
عقب حادثة دنشواى جرت محاكمة هزلية للفلاحين الذين اقتيدوا للسجن بتهمة قتل الضباط الإنجليز.. وذهب أحد المحامين يدعى الهلباوى للدفاع عن الإنجليز.. وقام شاب مصرى بقتل بطرس غالى، الشاب اسمه «الوردانى»، وحين ذهب في ترحيله للمحاكمة خرج المصريون يودعونه بالغناء:
«قولوا لعين الشمس ما تحماشى
لحسن غزال البر صابح ماشى»
ومنها صاغ الأبنودى أغنيته لـ«حمام».. فيما حول مجدى نجيب وبليغ المقطع نفسه إلى أغنية عاطفية.. وربما لهذا السبب اختفت أغنية الأبنودى.. لكنه ظل يغنى للشمس.. وللولد.. نفس الولد في مئات من الأغنيات وعبر نفس الصوت حتى اختلفا.. وحدثت قطيعة بين حمام والخال.. لم يفصح أحدهما عن سببها.. لكن وبعد فترة من القطيعة طلب المخرج الإذاعى فتح الله الصفتى من حمام أن يغنى عددًا من الأغنيات ضمن مسلسل سيخرجه عن سيرة شفيقة ومتولى، وطلب منه ترشيح الشاعر والملحن.. وتولى الأمر كاملًا.
يومها اتصل حمام بشقيقه مصطفى الذي يتذكر الواقعة كأنها حدثت بالأمس.
«رحت لحمام لقيته مهموم... كان مستنينى في فندق في وسط البلد اسمه كوزموبوليتان عند طلعت حرب.. قال المخرج عايزنى أحط أغانى جوه المسلسل ده.. قلتله شفيقة ومتولى يعنى الأبنودى.. ما تروحله.. قالى.. إحنا زعلانين.. قلتله في الشغل ما فيش زعل.. وخدته ورضا ناحية بيت الأبنودى.. كان ساكن في شقة في الدور السابع في الزمالك والأسانسير مش بيطلع لها.. سبت حمام في قهوة عمر الخيام عند الميريديان وكان فنانين كتير بيقعدوا فيها. ورحت لوحدى.. دقيت الباب الأبنودى فتح حسيت كأنه اتصدم.. اتخض.. طمنته بسرعة وقلتله حمام عايزك.. قالى هو فين.. قلتله في عمر الخيام.. قالى وده ينفع؟! ما عرفتش أرد.. قالى: «يا مصطفى الأعداء هما اللى يتقابلوا في أرض محايدة ثم مضى ليرتدى حذاءه.. ونزل معايا.. أول ما شاف حمام خده في حضنه وكأنهم كانوا مع بعض إمبارح.. وقعدوا ست شهور يعملوا أغانى مسلسل شفيقة ومتولى».
محمد حمام نفسه يتذكر هذه المرة.. «ست شهور عملنا ١٤ أغنية لحنها إبراهيم رأفت.. نشيل ونحط.. الأبنودى يكتب ويمسح لحد ما عملنا مجموعة من أجمل الأغنيات لنفاجأ بحذف سبع أغنيات بلا مبرر.. ليه يا عم ماحدش يرد عليك.. الأغنيات نفسها لما رحت فرنسا نزلت في أسطوانة.. اتطبعت هناك.. ما حدش سمعها في مصر.. الشركة اللى طبعت الأسطوانة اسمها (نوفو ستانسير إنترناشيونال) لكن أحدا لا يستطيع الآن أن يعثر لا على الأسطوانة ولا على التسجيل الأصلى في الإذاعة».
يتذكر مصطفى حمام إحدى هذه الأغنيات فيقول إنها كانت تخاطب متولى.. السجان يتحدث مع متولى ويقول له.. انت بينك وبين الدنيا سورين.. سور الدنيا.. وسور السجن.. وبتغنى.. انت قادر تعمل كده إزاى؟!».
ويبدو أن السؤال لم يكن موجهًا لمتولى.. بل كان للأبنودى وحمام.. اللذين لم يكتفيا بالغناء لعبدالناصر ولزمنه رغم أنه سجنهما.. بل وصارا له سندًا وجبهة تحارب مع الجنود في حرب الاستنزاف.
ولسه الكلام موصول
من النسخة الورقية