في إسطنبول.. المواطنون
يصلون الجمعة وتمتلئ بهم الحانات ليلًا
المرأة في تركيا تحرص على
الصلاة لكنها لا تخجل من إنجاب طفل بطريقة غير شرعية
الأتراك مسلمون على «دين
أتاتورك» ويرفضون كل ما هو خارج فقههم
الأتراك يعبرون عن رفضهم
لكل ما هو غير تركى الأصل حتى إنهم أنشأوا حزبا باسم «تركيا للأتراك فقط»
الدافع وراء تمسك الأتراك بالحياة الأوربية وتخليهم عن كل ما هو شرقى وإسلامى هو النزعة القومية الشديدة
في تركيا لا يجوز إكراه أحد على العبادة والمشاركة في الشعائر الدينية أو الجهر بمعتقده الدينى
الأتراك ما زالوا في حالة
حيرة بين ما هو علمانى رافض للدين وبين قبول الشريعة الإسلامية بأوامرها ونواهيها
حالة من الازدواجية يعيش
فيها الأتراك فمن يتعامل معهم للوهلة الأولى يشعر بحبهم للدين وتمسكهم بالإسلام
ونجد الكلمة الأكثر انتشارا بينهم «أنا مسلم والحمد لله»، لكن هناك وجها آخر
للمجتمع التركى المتمسك بإسلامه فالحياة الغربية شديدة الحرية هي الطابع العام
لديهم، الخلاصة أنهم مجتمع حائر بين الغرب وانتمائه الجغرافى له، وبين إسلامه
وشرقيته التي تمثل الأصل فيه، فالمرأة التي تلتزم بالصلاة والصوم، لا تخجل من أن
يكون لها ابن غير شرعى من صديق، فيما المساجد التي تتكدس بالمواطنين في ظهيرة
الجمعة تنافسها صالات المقامرة ليلا، وهى مليئة أيضا بالمواطنين.
الازدواجية في الحياة
التركية بين الإسلام والعلمانية جعلت الموقف أكثر تأزما في الحياة هناك، خاصة بعد
الموقف الحكومى التركى المناصر لتنظيم «الإخوان» حتى أن السؤال الذي يعقب أي
متاجرة للرئيس التركى بالإسلام هو «هل ترجع رأسك للخلف لترى كيف يعيش من تحكمهم؟».
لكن المدقق في الحالة
التركية الدينية يجد أن الدولة التركية الحديثة، تستمد شكل التدين الجديد لها من
خلال الثقافة التي مرت بالبلاد خلال المائتى عام الماضية، وهذا ما تؤكده حركة
التاريخ.
فكما تدخلت الوهابية والحركات الإسلامية المتشددة، في التأثير على شكل التدين في مصر وخلق نوع من العمى الدينى فيها وفى أغلب الدول العربية، فنجد أن الثورة التي قام بها أتاتورك دفعت بالأتراك إلى تجاهل الدين تجاهلا متعمدا، الأمر الذي جعل حالة الرفض تصل إلى العادات والتقاليد الشرقية بالإضافة لأحكام الشرع.
حيث رفضوا أي شكل للمجتمع
الدينى المحافظ واكتفوا بالإسلام، اسما فقط واعتمدوا مقولة السيد المسيح الذي يقول
فيها، «اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فالأتراك، الذين يملؤون المساجد يوم
الجمعة يبتهلون ويؤدون الصلوات، هم أنفسهم الذين يملؤون البارات في نفس اليوم
مساء، وكأنهم يقولون لن نخضع لقيصر ولا لله لأنهم يرون الله في قيصر الذي يريد أن
يصبغ الدولة بصبغة دينية، بعيدة عن تعاليم كمال أتاتورك قائد النهضة الحديثة الذي
يقدرونه أجل التقدير، وتظهر مظاهر التقدير والإجماع الواضح على أتاتورك من خلال
صوره التي لا يخلو منها أي مكان في تركيا، سواء في الأماكن الحكومية أو الأماكن
الخاصة، المحال التجارية والمقاهى، المواطنون هناك يعلقون صوره اعتزازا وتمسكا
بصانع ثورتهم على الدولة العثمانية، فرغم أن الحياة الدينية هناك يشكل المسلمون
فيها ٩٩٪ من السكان، أما الجزء الباقى فيتكون من اليهود والمسيحيين بمختلف
مذاهبهم، إلا أن الجميع يملك حرية الدين والاعتقاد وبموجب الدستور، وعلى هذا فإنه
لا يجوز إكراه أحد على العبادة والمشاركة في الشعائر الدينية، أو الجهر بمعتقده
الدينى، كما لا يجوز إدانته بسبب تلك المعتقدات، وبالتالى منعه من العبادة.
رغم ذلك كله فالأتراك ما
زالوا في حالة حيرة بين ما هو علمانى رافض للدين، وبين قبول الشريعة الإسلامية
بأوامرها ونواهيها، فالإسلام يكمن في قلوب الأتراك لا في ملابسهم، وهذا ما اعترف
به أردوغان نفسه، وهو الذي يعلن دائما أن حزبه ليس إسلاميا، وأن العلمانية هي أساس
الحكم في تركيا، وأنه حزب علمانى محافظ يتمسك بالتقاليد، ولم يعلن في أي وقت عن
أنه يحكم بمبادئ حكم إسلامى شرعى، فيما هو على النقيض يدعى أنه الساعى إلى إعادة
الخلافة العثمانية بمناصرته للإخوان. أما الشباب فيمثلون حالة خاصة في المجتمع
التركى، لأنهم الفئة الأكثر حيرة وابتعادا عن الدين، هذه الأجيال التي تربت في
تربة أتاتورك الخصبة، وكرهت تعاليم الدين من أمثال أردوغان الذي يرون أنه لا
يمثلهم وأن كل ما يربطه بالحكم هو الطفرة الاقتصادية، التي حققها في البلاد خلال
الأعوام الماضية، إحدى الفتيات التركيات قالت «أكره أردوغان ولا اعترف بحكمه ولا
أنتخبه أبدا، لكنى لا أرفض وجوده على رأس الدولة لأنه يحقق تقدما ملحوظا للبلاد».
الشباب أيضا يجهل خصالا
محددة مرتبطة بأصول الشريعة، فتجدهم يخرجون في الشوارع بأزياء أوربية ليست محتشمة
في نهار رمضان، استعدادا للإفطار، الفتيات أيضا أقل خبرة بأحكام الشريعة، فالفتاة
التي تخجل من قراءة الكف وتقول إنه حرام، لا تتردد في العيش مع صديقها في منزل
واحد حياة الأزواج، والأهم في ما وصلت إليه حالة الشباب التركى هو حالة الجهل
بالدين، والتخويف من كل ما هو إسلامى بسبب فظاظة وغلظة الإسلاميين هناك، وما تقوم
به الحركات الإسلامية في العالم من عنف وقتل، الأمر الذي جعلهم يتمسكون بعلمانيتهم
رفضا لهذا الدين، وهذا هو السبب الأكبر في فشل أردوغان في إقامة دولة إسلامية على
طريقته، لأنه لا يجرؤ على مواجهة هذه الشرائح الرافضة، لأسلمة الدولة، إضافة إلى
أن أردوغان نفسه يرتاح لفكرة وجود دولة علمانية، فعندما زار مصر في عام ٢٠١٢ نصح
المصريون بالعلمنة وقال لهم إنها أفضل للمجتمع المصرى.
الأتراك في الأصل يعشقون
التصوف فنجد أن جلال الدين الرومى هو الشخصية الأكثر شهرة وتقديرا هناك، ويستند
الفهم الدينى لهم على القرآن الكريم، فالأتراك يتعاملون مع القرآن دون وسيط، لذلك
لم يجدوا من يبعدهم عن العلمانية، التي يتمسكون بها تمسكا شديدا، فرغم صلواتهم
وابتهالاتهم وحبهم للدين الإسلامى، نجد أن العلمانية أحد الأركان الجوهرية
لجمهورية تركيا، وهى الدولة الوحيدة بين الدول الإسلامية الأخرى التي ينص دستورها على
العلمانية وتطبيقها، فيما الدين والعقيدة أمر شخصى بين العبد والله تعالى،
وبالتالى لا إكراه في الدين، ذلك المفهوم الذي تبلور عند الأتراك منذ مئات السنين
وتوطد جيدا في ضمائرهم ليصبح قاعدة يلتزم بها الجميع.
في العموم يعيش الأتراك
ما يعلن أنهم علمانيون في كل حركاتهم وثكناتهم، ففى الجمعة تمتلأ بهم المساجد بشكل
لا يوحى أنها دولة علمانية، التدين التركى والأتراك عموما لديهم مشكلة جذرية مع
التدين الخليجى، والمحسوب على الوهابية ولديهم حنين كبير للدولة العثمانية لكنهم
يرفضونها ويرفضون كل ما يمكن أن يؤدى بهم إلى ثقافة الخليج، ويمثلون دروعا ضد كل
ما هو خليجى، باستثناء قطر التي تدر لهم دخلا اقتصاديا ضخما سنويا، حيث تصل قيمة
الاستثمار القطرى في تركيا لنحو ٣٢ مليار دولار، بخلاف المملكة العربية السعودية
التي تسعى جاهدة لاقتحام تركيا، حيث يقوم عدد كبير من رعاياها بشراء أراض داخلها،
وهو الأمر الذي يرفضه الأتراك ويقفون ضده بالمرصاد رفضا لسلفية الخليج.
ولعل الدافع وراء تمسك
الأتراك بالحياة الأوربية وتخليهم عن كل ما هو شرقى وإسلامى هو النزعة القومية
الشديدة، التي غرسها فيهم أتاتورك ويستمدونها من الاسم التركى وكراهيتهم الشديدة
لكل ما هو عثمانى، فالأتراك يحبون الإسلام ويتمسكون بدينهم الحنيف، بل إن أغلبهم
يعتنق الإسلام على مذهب الامام أبى حنيفة لكن التعصب الشديد لكل ما هو تركى غلب
على أي انتماء آخر لديهم.
يدلل على ذلك اسم الدولة
نفسه، الذي يشير إلى قومية الشعب التركى فتركى تعنى القومية أو قوميتى أو الأرض
التي أملكها، يساعد على ذلك حب تركيا للحركة القومية التي قام بها كمال أتاتورك
والتي شهدت تركيا بعد الحرب العالمية الأولى حركة قومية قادها أتاتورك أبو الأتراك
كما يطلقون عليه في إسطنبول وأعلن تركيا الجمهورية فتولى رئاستها عام ١٩٢٣، حتى
توفى عام ١٩٣٨، وقد تمكن من إحلال نظام علمانى في البلاد وأرسى أيضًا عددًا من
العادات الغربيّة إلحاقًا للبلاد بأوربا، ومنها استبدال الكتابة بالأحرف العربية
إلى اللاتينية.
الأتراك دائما يعبرون عن
رفضهم لكل ما هو غير تركى الأصل، حتى أنهم أنشأوا حزبا باسم تركيا للأتراك فقط،
تتبرأ من كل فرد بعيد عن الأصول التركية، فهم يرفضون أي مواطن لم يثبت تأصيل جذوره
التركية، وبالتالى هم يعارضون أي تواجد للأكراد داخل تركيا ويقابل ذلك تمسكهم
بعلمانية الدولة، التي بدأت عقب انهيار الخلافة العثمانية بإنشاء الجمهورية
التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك، والتي شهدت مسيرة التحول نحو أوربا ومحو أي
طقوس لشرقية تركيا، في الثقافة والسلوك العام، وهو الأمر الذي يفسر تقديس الأتراك
لشخصية أتاتورك.
في رحلتى القصيرة سألت
أحد أعضاء حزب العدالة والتنمية الذي التقيته صدفه بمكتب رئيسة الغرفة السياحية،
ببلدية إسطنبول عن تمسك الدولة ببصمة أتاتورك، رغم أن الحكومة تعتبر إسلامية، قال
لى إن الحكم في تركيا لا يعتبر إسلاميا بالمفهوم المتعارف عليه، وقال إن أتاتورك
رمز لا يمكن تجاهله، حتى لو حكم الأتراك حزب محافظ لأن الأتراك يعتبرونه حاميا
للدولة بعد أن كانت مهددة بالتمزق والتقسيم.
الأهم في التمسك بعلمانية
الدولة هو أنها دليل على اعتدال الأتراك، فالمراقب للوضع داخل تركيا يلاحظ حالة
الارتياح العامة التي يعيش فيها المواطن التركى والتعايش مع العلمانية كمنهج حياة.