في الفصل الثاني من الكتاب الذي صدر مؤخرًا عن دار نشر «سما» في نحو ٦٠٠ صفحة، يعود خالد عكاشة إلى نشأة جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا، الذي فتح بأفكاره وتأثيره الباب واسعًا أمام كل التكفيريين.
«القاتل الأقل جهامة» هكذا يوصف حسن البنا، نبي العنف الإخوانى الذي تستر وراء الرقة والشعارات البراقة، وخدع المئات من أتباعه بنعومته وأسلوبه الرقيق الذي يخفى تحته سفاحًا محترفًا.
كان البنا أول من كلف مجموعة من رجاله بتشكيل ميليشيا مهمتها القتل، وراح ضحية العنف الذي صنعه، ومع ذلك وصفه المغيبون من أتباعه بـ«الإمام الشهيد».
بداية واعدة بالعنف!
ولد حسن البنا عام ١٩٠٦ بالمحمودية محافظة البحيرة، وظهرت عليه مقومات الزعامة والقيادة منذ صباه، ففى مدرسة الرشاد الإعدادية وقع اختيار زملائه عليه ليكون رئيسًا لمجلس إدارة جمعية «السلوك الاجتماعي»، غير أن تلك الجمعية المدرسية لم ترض فضوله، لأنه اكتشف ضعف تأثيرها فأسس مع عدد من زملائه الأكثر حماسًا، جماعة «النهي عن المنكر» خارج نطاق مدرستهم، كان هدفها فرض تعاليم الدين على سكان المدينة وإرسال خطابات تهديد إلى من لا يلتزمون بها!!
عُين البنا مدرسًا للغة العربية بإحدى المدارس الابتدائية بالإسماعيلية، ومنها انطلق البنا بدعوة الإخوان المسلمين، ثم استقر منذ عام ١٩٣٢ في القاهرة، ليزاول عمله كمدرس بمدرسة عباس بالسبتية، وأخذ يؤسس لجماعة «الإخوان المسلمين».
في سنوات شبابه لم يكن حسن البنا مهتمًا بالسياسة، أو قضايا الاستقلال والدستور أو رفض السلطة القائمة، وإنما كان منخرطًا في أفكار سلفية تعارض الحداثة و«التغريب».
وقد بدأ حسن البنا دعوته وعينه على القصر الملكي، وحاول أن يرتبط به، على اعتبار أنه من مصلحة العرش أن تكون جماعة الإخوان ركيزة له، وكان الإخوان حريصين على إزجاء المديح للملك فؤاد والثناء الدائم على سلوكه الإسلامي، وتوالت مراثيهم له بعد موته.
وكتب البنا في مجلة «الإخوان المسلمون» (٩/ ٢ /١٩٣٧) بعنوان «حامي المصحف»، يقول: «إن ٣٠٠ مليون مسلم في العالم تهفو أرواحهم إلى الملك الفاضل، الذي يبايعهم على أن يكون حاميًا للمصحف، فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنودًا للمصحف، وأكبر الظن أن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق، فعلى بركة الله يا جلالة الملك، ومن ورائك أخلص جنودك».
ولا تنسى الحركة الوطنية المصرية موقف البنا وإخوانه عندما اختلف رئيس الوزراء مصطفى النحاس مع القصر، وخرجت جماهير الوفد تهتف «الشعب مع النحاس»، فسير حسن البنا مظاهرات مضادة تهتف «الله مع الملك»، وأطلق المتظاهرون الإخوان على «الفاروق» لقب «أمير المؤمنين».
وقد ذاع في هذا الوقت وبعده اتهام لفرق «جوالة الإخوان»، بأنهم قاموا بدور «شرطي القصر»، كما اتهم الإخوان في الشارع السياسي حينئذ بتلقى مساعدات من أحزاب الأقلية وبعض زعمائها، دعمًا للملك ونكاية في الوفد.
بفضل هذه العلاقة الغريبة مع القصر الملكى عندما اعتقل حسن البنا بناء على تقارير من المخابرات البريطانية، حول قيام الإخوان بدعاية مضادة لإنجلترا، واستعدادهم لعمليات تخريبية ضد منشآت بريطانية، سعى مجلس النواب وبمساندة ضغط القصر للإفراج عنه، وعقب خروجه من المعتقل عاد البنا أكثر حرية ونشاطًا، وعن مساعدة الملك للإخوان قال السفير البريطانى في القاهرة: «إن القصر الملكي بدأ يجد في الإخوان أداة مفيدة، وإن الملك أصدر بنفسه أوامر لمديرى الأقاليم (المحافظين) بعدم التدخل في أنشطة الإخوان».
جيش البنا
بعد أن نجح البنا في خلق مناخ مواتٍ لجماعته بالخنوع للسلطة، بدأ يعمل على تحويل جماعة الإخوان المسلمين من جماعة مدنية إلى جماعة عسكرية، والانتقال من مرحلة الاعتماد على وسيلة «الحب والإخاء والتعارف» في نشر الدعوة، إلى مرحلة الاستعداد لتنفيذ أهدافها بالقوة، فأخذ في بناء جيش كبير تحت اسم برىء مخادع هو «فرق الرحلات».
وقد ذكر البنا أن السبب في تأسيس فرق الرحلات، هو «التأثر بفكرة الجهاد الإسلامي» وتحقيقًا لنيته، وتنفيذًا لأمر الإسلام، وتحرجًا مما جاء في الحديث الشريف: «من مات ولم يغز ولم ينو الغزو، مات ميتة جاهلية».
وفى الفترة من عام ١٩٣٤ إلى ١٩٣٧، كانت هذه الفرق قد نمت إلى الحد الذي قرر فيه البنا أن يقيم عرضًا للقوة، «القوة في خدمة القصر» وليس في خدمة القوى الديمقراطية، ووصفت مجلة «الإخوان المسلمين» وفى هذا الاشتراك وصفًا مثيرًا تحت عنوان: «حشد لم يسبق له نظير في تاريخ مصر الحديثة»، وفى هذا الوصف أطلقت الجريدة على «فرق الرحلات» اسم «الفرق العسكرية» لأول مرة.
ومن الطريف أنه حين أعيد طبع «مذكرات الدعوة والداعية» من دار الشهاب في عام ١٩٧٧، حذفت منها هذه الواقعة، مما يحمل في حد ذاته إدانة دامغة لها.
من الكشافة إلى التنظيم السري
بعد نشوب «الحرب العالمية الثانية» ١٩٣٩، انتقل التنظيم العسكري للإخوان إلى طور جديد، ففى العام التالى ١٩٤٠، وحتى يتغلب البنا على العقبات التي قد تثور، في وجه فرق الرحلات في ظروف الحرب، قرر الانضواء رسميًا تحت تشكيل النظام العام لجمعية الكشافة، حتى يستفيدوا من التسهيلات والمزايا المخصصة للكشافة، والاستفادة أيضًا من وجود بعض شباب الإخوان الذي يعمل رسميًا بالجمعية أو خارجها في محيط الحركة الكشفية، وقد تكون مجلس أعلى للجوالة من سبعة أعضاء وعلى رأسهم حسن البنا، وعين «الصاغ محمود لبيب» مفتشًا عامًا، وهو ضابط بالجيش. وذلك رغم أن قانون الكشافة كان يحظر حظرًا حاسمًا على أعضائها الانتماء إلى جماعات سياسية أو دينية، كما يحظر التشكيلات شبه العسكرية، وفى الوقت الذي طبق فيه هذا القانون على فرق القمصان الزرقاء والقمصان الخضراء لحزب «مصر الفتاة»، كانت جوالة الإخوان المسلمين تملأ مصر من أقصاها لأدناها، وتسير في كل مكان، وفى كل مدينة وقرية وهى تكبر وتهلل وتظهر قوتها.
كانت الخطوة الطبيعية التالية هي الحصول على الأسلحة، وهو ما أكده أنور السادات الذي كان شاهد عيان على قيام الجماعة بشراء وتخزين الأسلحة في المراحل الأولى من الحرب، موضحًا أن حسن البنا كان في ذلك الوقت المبكر يجمع السلاح ويشتريه ويخزنه، لكنه لم يكن يطلع أقرب الناس إليه من كبار الإخوان المسلمين على هذا الأمر، إنما كان يستعين في هذه العمليات بإخوان من الشبان الصغار.
لم يخف البنا أن الحكم كان طلبه الرئيسى منذ قرر النزول إلى ميدان السياسة، بل لقد اعتبر قعود الإخوان عن طلب الحكم «جريمة إسلامية»، لا يكفرها إلا «النهوض واستخلاص قوة التنفيذ»، ولكن المسألة في رأيه كانت تتطلب عدة مراحل تقطعها الدعوة قبل أن تنضج للحكم. وقد جهز التنظيم الخاص «بجهاز مخابرات إخوانى» على جانب كبير من المهارة، بحيث تكون القيادة على علم بكل صغيرة وكبيرة عن خصومها وأصدقائها على السواء، وكان نطاق جهاز المخابرات واسعًا يمتد ليشمل جميع الأحزاب المصرية الموجودة في ذلك الحين، وهى: الوفد، والسعديين، والأحرار الدستوريين والكتلة الوفدية، والحزب الوطنى، ومصر الفتاة، وحزب العمال، وحزب الفلاح الاشتراكى، وجبهة مصر، والشبان المسلمين، والشبان المسيحيين، والجماعات الشيوعية، فضلًا عن النقابات والجمعيات المختلفة، وكانت هناك مخابرات في كل وزارة، وفى الجامعة والأزهر والمدارس، وكانت تقدم تقارير عن القائمين بالأعمال في أقسام البوليس وقواتها، والمحال الصناعية اليهودية والأجنبية والمصرية.
اختراق الدولة المصرية
لم يكن غريبًا أن يتمكن هذا الجهاز السرى من الحصول على بيانات مفصلة عن منشآت الجيش المصرى، والمنشآت الأجنبية من سفارات وقنصليات، فضلًا عن المنشآت الحكومية من وزارات ومحافظات ومديريات وأقسام ومراكز ونقط البوليس والسجون ومكاتب التلغراف والبريد وغيرها، وعن المواصلات من سكك حديدية وترام وطرق زراعية وخطوط الأتوبيس، على أن جزءا مهمًا جدًا من الإعداد، كان يتمثل في الإعداد الروحى والدينى لإقناع العضو بمشروعية الأعمال التي يقوم بها.
وقد تغلغل الإخوان في الجيش والبوليس، وكانت تعد تنظيمات سرية بحكم طبيعة عمل الضباط، فعندما سئل «حسين أبو سالم» أمام «محكمة الشعب» عما إذا كان يعرف أن هناك تنظيمًا عسكريًا بجانب التنظيم الخاص السري، أجاب: «الإخوان اللى في الجيش والبوليس، تنظيمهم يعتبر بالنسبة للجماعة تنظيمًا سريًا، لأن طبيعة عملهم كضباط في الجيش أو البوليس تجعلهم لا يترددون على شعب الإخوان».
اكتمال التنظيم السرى كان نتيجة تحالف الإخوان مع السلطة، وظن هذه السلطة أن نشاط الإخوان هو لتحقيق الهدف المشترك وهو ضرب الوفد.
وهذا ما تؤكده شواهد كثيرة، مثل ما ذكره عبد المجيد حسن قاتل النقراشى باشا، أنه ذهب للتدريب في جبل المقطم مع آخرين على استخدام الأسلحة وهى البنادق والمسدسات والقنابل، وكان يدربهم السيد فايز الذي كان يرتدى بنطلونًا كاكى اللون، وقميصًا كاكى اللون أيضًا بنصف كم، وقبعة تشبه قبعات الجنود في الجيش البريطانى (أي زى شبه عسكري)، وأنه وجد في الجبل أسلحة وذخائر في بعض الخيام، وقد علم بعدها بالقبض على السيد فايز ومعه مجموعة أفراد يتدربون على استخدام السلاح، ثم أطلق سراحهم بدعوى أن هذا لا يخالف القانون، وأن هذه الأعمال التي تقوم بها الإخوان تتفق مع الإسلام، واستدل على ذلك أن «هذا التدريب كان تحت سمع الحكومة وبصرها».
ويواصل عبد المجيد حسن أن الإخوان كانوا يضعون القنابل داخل الجامعة، فيروى أنه «قبيل ليلة عيد الميلاد سنة ١٩٤٦م، ذهبت أنا وحسين عبد السميع إلى الجامعة وكانت محاصرة، وتمكنا من تسلق سور كلية الزراعة، وقصدنا إلى الدواليب الخاصة، وأعطانى عبد السميع مفتاحًا لأحتفظ به، وفتح هو بمفتاح آخر أحد هذه الدواليب، ونظر فيها كما نظرت أنا أيضًا، فشاهدت تسع أو عشر قنابل. وقد ذكر «عبد الرحمن عامر بك وكيل وزارة الداخلية» في شهادته أمام المحكمة في قضية قتل النقراشى باشا، قائلًا: «إن الجماعة كانوا على أثر كل حادث يتمسحون بقضية فلسطين، وكنت موقنًا من أن هذا التمسح باطل ولا أساس له، لأنهم لو كانوا يقصدون حقًا خدمة فلسطين، لتوجهوا لمكان التدريب الذي أعدته الحكومة في «هايكستب» ظاهرين لا متخفين، لا أن يذهبوا إلى جبل المقطم فلا نعرف شخصياتهم أو نياتهم».
خداع الفقراء
اعتمد البنا في تكوين الجهاز السرى، على عناصر عمالية وبورجوازية صغيرة تتكون من موظفين وحرفيين وطلبة، وقد لفتت هذه الملاحظة نظر «مصطفى الهلباوى رئيس نيابة أمن الدولة» في مرافعته أمام محكمة الشعب، فقال: «ولعلكم يا حضرات القضاة لاحظتم على الشهود أن هذه الجمعية، كانت حريصة كل الحرص على أن تختار في نظامها السرى أو الخاص طائفة من الفقراء، فقد شهدتم الحداد، والمطبعجى، والسمكرى، والعامل في وزارة الصحة، ولعل هدفها في اختيار هؤلاء الفقراء أنها أرادت بذلك أن تستغل عامل الفقر في هؤلاء الناس، فسلكتهم في هذا النظام السرى الفدائى الإرهابى لتثير فيهم غريزة الحقد على هذا المجتمع، وهى غريزة تجعلهم أكثر تعصبًا للمبادئ المخربة».
بعدما أدلى حسن البنا برسائله التكفيرية بدأ أنصاره بالتطبيق على أرض الواقع، فدخل الجهاز السرى في معترك عمليات العنف، ففى أسبوع واحد من يوليو ١٩٤٦، ارتكبت ٤ حوادث ضد الجنود البريطانيين في سياراتهم وأماكن لهوهم باستخدام القنابل والمسدسات والبنادق، أسفرت عن (إصابة ١٢٨ شخصًا) وقبض فيها على أحد عشر متهمًا، فر منهم ثلاثة سجناء من سجن الحدراء من خلال ثغرة فتحوها في نافذة السجن في شهر أكتوبر ١٩٤٦، وجرت محاكمتهم أمام محكمة مشكلة برئاسة «القاضى أحمد الخازندار» الذي حكم عليهم بأحكام قاسية، تراوحت بين الثلاث والعشر سنوات.
نشأت فكرة النظام الخاص في أعقاب الاصطدام بالسلطة، وكان البنا يعتمد على القصر والسعديين لحماية جماعته من القانون.
في ظل الحكم الليبرالى لوزارة الوفد، لم تكن هناك حاجة بالإخوان لاستخدام العنف، فمع أن الوزارة أغلقت جميع الشعب فيما عدا المركز العام في نهاية عام ١٩٤٢، إلا أن الموقف تغير في بداية العام التالي، فقد قامت مجموعة من أعضاء الوفد البارزين، معظمهم من الوزراء، بزيارة المركز العام، وعادت العلاقات إلى التحسن، وعند نهاية حكم الوفد كانت حركة الإخوان قد بلغت درجة من القوة دفعت حسن البنا إلى الاعتقاد في إمكانية الوصول إلى الحكم، عن طريق الانتخابات البرلمانية عندما تسمح الظروف المناسبة. ولكن مع تولى أحمد ماهر باشا للوزارة وتشديد قبضته على جماعة الإخوان، قرر التنظيم السرى تنفيذ أولى عملياته باغتيال رئيس وزراء مصر.
الرصاصة الأولى في تاريخ دموي
في يوم السبت ٢٤ فبراير ١٩٤٥، كان أحمد ماهر باشا متوجهًا لمجلس النواب، لإلقاء بيان من هناك، وأثناء مروره بالبهو الفرعونى قام شاب يدعى «محمود العيسوى» بإطلاق الرصاص عليه وقتله في الحال.
بعد الحادث ألقى القبض على حسن البنا وأحمد السكرى وعبدالحكيم عابدين، وآخرين من جماعة الإخوان والتي كان العيسوى عضوًا فيها، ولكن بعدها بأيام تم الإفراج عنهم بسبب اعتراف القاتل بانتمائه للحزب الوطنى.
اغتيال ماهر كشف عن عدد من الحقائق؛ منها أن الكثيرين من جماعة الإخوان في ذلك الوقت كانوا يجمعون بين الانتماء لحزبهم والانتماء للإخوان، مثل حامد جودة، صبرى باشا، فؤاد سراج الدين، صدقى باشا، وبالتالى كان محمود العيسوى عضوًا في جماعة الإخوان في الوقت الذي كان منتسبًا فيه للحزب الوطنى، وقضى مدة تمرينه كمحام في مكتب عبد الرحمن الرافعى.
كذلك يدل تاريخ اغتيالات الجماعة، والتنظيمات الإرهابية التي نشأت من أفكارها التكفيرية، أنها لا تنبع عادة من فرد، وإنما من تنظيم، هكذا حدث في اغتيال بطرس غالى باشا، ومقتل السردار لى ستاك، والاعتداءات التي حدثت أثناء ثورة ١٩١٩ حتى ١٩٢٤، ومحاولات قتل إسماعيل صدقى باشا في المدة من ١٩٣٠–١٩٣٤، ثم محاولة اغتيال مصطفى النحاس باشا على يد أحد أعضاء مصر الفتاة في نوفمبر ١٩٣٠م، واغتيال أمين عثمان باشا سنة ١٩٤٦م، ثم حوادث الاغتيال التي قام بها الإخوان عامى ١٩٤٨ و١٩٤٩.
من النسخة الورقية